ما كلفة البقاء حيّاَ في زمن إدارة الحياة بالذكاء الاصطناعي؟

ما كلفة البقاء حيّاَ في زمن إدارة الحياة بالذكاء الاصطناعي؟

الذكاء الاصطناعي في الصحة يتحول من أداة إنقاذ ضرورية إلى منظومة تتحكم بالبقاء وتسعّر الحياة.
ما كلفة البقاء حيّاَ في زمن إدارة الحياة بالذكاء الاصطناعي؟
صورة تعبيرية
Smaller Bigger

د. حسن دياب


في لحظة ما، لا يُطرح السؤال بوصفه خيارًا، بل كشرط للبقاء. الجسد ينهار، والمؤشرات الحيوية تتراجع، والتقنية المتاحة لا تُعرَض كتحسين أو كإضافة، بل كوسيلة وحيدة للاستمرار. القبول هنا لا يحتاج إلى إقناع؛ حين يكون البديل هو الموت، تصبح الموافقة فعلًا بديهيًا، لا موقفًا أخلاقيًا بحد ذاته. هكذا يدخل الذكاء الاصطناعي إلى الرعاية الصحية: لا كحلم مستقبلي، بل كضرورة فرضتها أنظمة مُرهَقة، مواردها محدودة، وحاجتها إلى الكفاءة لم تعد تحتمل التأجيل.

 

هذه الضرورة تمنح التقنية شرعيتها الأولى. فالإنقاذ، حين ينجح، يُسكت الأسئلة مؤقتًا. غير أن ما يُقدَّم كحل تقني خالص يبدأ منذ لحظته الأولى في إعادة ترتيب العلاقة بين الحياة ومن يدير شروطها. فالتكنولوجيا لا تأتي وحدها؛ تأتي محمولة بإطار تنظيمي، وبمنطق يحدد كيف تعمل، ومتى، ولمن.

 

الضرورة، في مثل هذه السياقات، لا تُفرض بالقوة، بل تُبنى تدريجيًا حتى تبدو بلا بديل. لم تعد التقنية خيارًا يمكن المفاضلة بشأنه، بل جزءًا من البنية التي يصعب تخيّل الحياة خارجها. هكذا تحولت الكهرباء، ثم الإنترنت، ثم أنظمة الاتصال، من خدمات كان يمكن رفضها إلى شروط غير معلنة للاندماج في المجتمع. في كل مرة، كان الانتقال يتم باسم الكفاءة، ثم الاستقرار، ثم "الواقع". الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية يسلك المسار ذاته، لكن مع فارق حاسم: ما يُعاد تنظيمه هذه المرة ليس أسلوب العيش، بل حدود البقاء القصوى. حين تصبح التقنية ضرورية لبقاء الجسد نفسه، يفقد السؤال عن شروطها طابعه الأخلاقي، ويغدو أقرب إلى سؤال غير قابل للطرح. فالضرورة، حين تكتمل، لا تطلب الموافقة، بل تفترضها.

في هذا الإطار، يُغلَّف الحل بمنطق يبدو مألوفًا إلى حد الطمأنينة: الخدمة الطبية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي تعمل طالما أن التمويل مستمر. لا تهديد، لا إجبار، فقط آلية واضحة. الاشتراك - بوصفه استمرار الخدمة مقابل دفع دوري - مفهوم، بل يبدو عقلانيًا. فالتقنيات المعقّدة مكلفة، وتشغيلها يحتاج إلى موارد، والاستمرارية تحتاج إلى تمويل.

 

في البداية، لا يختلف هذا الترتيب كثيرًا عن غيره من الخدمات التي اعتدناها. لكن الفارق يظهر عند أول تعثّر. حين يتراجع مستوى الخدمة، لا تتأثر ميزة يمكن الاستغناء عنها، بل يحدث شيء أدق وأخطر: يتقطع الوعي نفسه. ينطفئ الحضور لثوانٍ، ثم يعود مثقلًا، غير مستقر. في تلك اللحظة، يتضح أن ما يُدار بمنطق الاشتراك ليس ترفًا يمكن الاستغناء عنه، بل شرط البقاء ذاته. لا أحد يقول إن الحياة تُباع، لكن النظام يعمل كما لو أنها كذلك، وبكفاءة تامة.

 

صورة تعبيرية مولّدة بالذكاء الاصطناعي
صورة تعبيرية مولّدة بالذكاء الاصطناعي

 

 

هذا المنطق لا يولد داخل الرعاية الصحية، بل يصل إليها محمّلًا بتاريخ طويل من القبول الاجتماعي. اعتاد الناس أن يكون الوصول إلى الموسيقى، ثم الأفلام، ثم المعرفة الرقمية، مشروطًا بالتمويل المستمر. ومع الوقت، لم يعد هذا الشرط يُنظر إليه كقيد، بل كصيغة طبيعية للتنظيم. حتى التعليم بدأ يتخذ هذا الشكل، حيث لا يُحجب بالكامل، بل يُقسَّم إلى مستويات من الجودة وإمكانية الوصول. في كل هذه الحالات، كان القبول مفهومًا لأن ما يُدار بالاشتراك لم يكن يمسّ البقاء مباشرة، بقدر ما كان يحدد درجته أو راحته. لكن حين ينتقل المنطق ذاته إلى مجال الصحة، يتغير كل شيء. هنا لا يعود الاشتراك وسيلة لتنظيم الخدمة، بل أداة لترتيب الحياة نفسها على سلّم غير معلن. الفارق ليس في الآلية، بل في ما تُطبَّق عليه.

 

من هذه النقطة، يصبح من السهل انتقاد السوق، لكن من الصعب تجاهل المأزق الذي يفرضه الواقع. فالنظام الصحي لا يعمل بالنوايا الحسنة، ولا تستمر التقنيات المعقّدة دون موارد. كل دقيقة إضافية من الحياة تعني استهلاكًا إضافيًا، وكل تحسين تقني يفتح باب كلفة جديدة. في هذا السياق، لا يبدو منطق الاشتراك فعلًا جشعًا بقدر ما يظهر كحل عملي لمشكلة حقيقية. لكنه حلّ يحمل توترًا لا يمكن حله بسهولة: إذا كانت الحياة لا يجوز تسعيرها، فكيف يمكن تمويل ما يُبقيها ممكنة؟

 

عند هذا الحد، تُستدعى الدولة بوصفها الإجابة الأكثر طمأنينة. الدولة، نظريًا، قادرة على نزع الرعاية الصحية من منطق السوق وإعادتها إلى حيّز الحق العام. لكن هذا التصور يصطدم سريعًا بحدود الموارد. فتمويل الاستشفاء ليس قرارًا رمزيًا، بل سلسلة اختيارات يومية: من يستمر علاجه، إلى متى، وبأي كلفة مقارنة بغيره. هنا لا تختفي المعضلة، بل تتخذ شكلًا أكثر برودة. العدالة لم تعد مسألة نوايا، بل مسألة توزيع موارد محدودة. والسؤال الذي يفرض نفسه: متى يصبح إنقاذ فرد واحد عبئًا على إمكانية إنقاذ آخرين؟

 

الأمر لا يتوقف عند من يموّل، بل عند من يقرر. فالقرار في هذه الأنظمة لا يُتخذ في نقطة واحدة، بل يتوزّع على شبكة من الآليات: بروتوكولات، لجان، مؤشرات جدوى، وخوارزميات تُقيّم "الأولوية" و"الفعالية". كل خطوة تبدو عقلانية حين يُنظر إليها على حدة وكل جهة يمكنها الادعاء بأنها لم تفعل سوى تطبيق القواعد. بهذه الطريقة، لا تختفي المسؤولية الأخلاقية، بل تُجزّأ حتى تتوارى. لا أحد يقرر أن حياة هذا الشخص أقل قيمة، لكن النظام ككل يصل إلى هذه النتيجة دون حاجة إلى إعلانها.

في هذا الفراغ بين السوق والدولة، يظهر حل ثالث لا يُقدَّم بوصفه قاسيًا ولا رحيمًا، بل عمليًا. لا تُلغى الخدمة، ولا يُترك الإنسان لمصيره، بل يُعاد تعريف العلاقة. مقابل الاكتفاء بالمستوى الأدنى من الخدمة، تستمر الحياة، لكن بكلفة مختلفة لا تُدفَع بالمال وحده. هنا تحديدًا تدخل الإعلانات بوصفها آلية تمويل بديلة. لا تظهر على شاشة خارجية، بل تتسلل إلى التجربة نفسها. الصوت الذي يُفترض أن يكون صوت الإنسان يتحول فجأة إلى مساحة عرض للإعلانات. في الظاهر، يبدو هذا ترتيبًا ذكيًا: الإعلانات تموّل الخدمة، والجميع يتجنب قرارًا قاسيًا بوقف تقديمها. لكن ما يتغير هنا أعمق من آلية التمويل. فالعلاج لم يعد قائمًا فقط على الحاجة الطبية، بل على قابلية الجسد لأن يتحول إلى وسيط.

 

عند هذه المرحلة، لا يعود الإنسان متلقيًا للخدمة، ولا حتى زبونًا. ما يحدث أبعد من ذلك: الإنسان نفسه يصبح جزءًا من السلعة. جسده، ووعيه، وانتباهه تتحول إلى موارد قابلة للاستثمار. القيمة لم تعد في إنقاذ الحياة وحده، بل في ما يمكن استخراجه منها أثناء إنقاذها. الرعاية الصحية، التي يُفترض أن تحمي الإنسان في لحظة ضعفه القصوى، تبدأ في التعامل معه كأصل قابل للتوظيف. ربما هنا تحديدًا تكمن الجملة التي لا يرغب أحد في قولها صراحة: ما لا يمكن تسعيره مباشرة، يُعاد تنظيمه ليصبح مربحًا بطريقة ما.

 

أخطر ما في هذه الترتيبات ليس صدمتها الأولى، بل قدرتها على التحول إلى روتين. فالإنسان لا يعيش في حالة احتجاج دائم، بل يتكيّف. ما كان غير مقبول يصبح محتملًا، ثم مألوفًا، ثم غير مرئي تقريبًا. الانقطاعات القصيرة في الوعي تُفسَّر كأعطال مؤقتة، الإعلانات المتسللة تُبرَّر كحل عملي، والفوارق في الوصول تُعاد صياغتها كلغة "اختيارات" شخصية. الاعتياد هنا لا يعني الرضا، بل غياب القدرة على التخيل خارج النظام القائم. وحين يصل الأمر إلى هذه المرحلة، لا يعود النظام بحاجة إلى تبرير نفسه، يكفي أن يعمل.

 

*باحث واستاذ جامعي

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/30/2025 9:09:00 AM
العميد أحمد الدالاتي قائد أمن ريف دمشق تابع بشكل مباشر قضية حمزة
المشرق-العربي 12/30/2025 5:55:00 PM
إطلاق نار كثيف قرب قصر الشعب والمزّة 86 في دمشق، مع أنباء غير مؤكدة عن عملية اغتيال.
المشرق-العربي 12/30/2025 8:12:00 PM
شقيق أبو عبيدة يكشف تفاصيل عن اشتباك خاضه الناطق السابق باسم القسام في شمال غزة
اقتصاد وأعمال 12/29/2025 5:34:00 AM
"بات من مصلحة المكلفين التصريح عن مداخيلهم وتسديد الضرائب ضمن المهل القانونية، تفاديا لرفع السرية المصرفية عن حساباتهم"