المطبخ اللبناني و"حبّة مسك" مع كمال مزوّق... حين يصبح الطعام وجهة سياحية
في قلب مار مخايل، حيث تختلط رائحة الذكريات بنبض المدينة بيروت، زرنا مطعم "طاولة" والتقينا الطاهية اللبنانية العائدة من الاغتراب هناء خليل. لم تتعلّم الطهو في معهد، بل من هاتفها، وكانت شقيقتها الدليل والمعلّمة في كل مرة. مطبخها الخاص أصبح صفّها الدراسي، وتخرّجت فيه بشهادة من تذوّق مأكولاتها وتذكّر الوطن.
ببساطة وعفوية، دخلنا معها المطبخ، مزجنا الكبة بـ"الكمّونة". ووسط ضجيج التحضيرات، تروي كيف استعانت بالتوابل لتستحضر نكهة الوطن.

من الذاكرة إلى المائدة
بالنسبة إلى هناء، لم تكن العودة مجرّد قرار، بل مشروع عاطفي أرادت عبره أن يعتاد أولادها على طعم لبنان. الطبخ بالنسبة إليها ليس مهنة، بل وسيلة يومية للحفاظ على هوية لا تغيب. كل طبق تجهّزه يحمل حكاية، وكل نكهة تروي سيرة مكان.
كمال مزوّق: الطعام هو الأرض
وراء هذا المشروع تقف رؤية كمال مزوق، مؤسّس "سوق الطيب" و"طاولة"، الذي يرى في الطعام تعبيراً صادقاً عن الشعوب وجذورها. يقول: "ما نأكله هو من إنتاج هذه الأرض التي تعطينا كل ما نحتاجه".
لا يقدّم "طاولة" الطعام فحسب، بل يعدّ مساحة مستدامة لحفظ التراث ودعم الطهاة المحليين وخلق فرص عمل. مشروع مزوق يعكس، من خلال "سوق الطيب"، تنوّع المناطق اللبنانية ووحدتها، تحت مظلة النكهات.

المطبخ، كما يقول مزوق، "كائن حي، يخضع للتطوّر المستمر". تتبدّل النكهات، لكن الروح تبقى. أما للمغتربين، فالأطباق اللبنانية ليست ترفاً، بل امتداد لذاكرتهم، وجسر يومي يربطهم بجذورهم. كل طبق يُقدَّم في الغربة هو حكاية تُروى بطبقٍ من الحب.
يلفت مزوّق إلى الترابط الوثيق بين المطبخ والسياحة، قائلاً: "بين الطعام التقليدي والسياحة علاقة جوهرية. نطلب الطعام التقليدي للبلد الذي نزوره لكي نتعرّف عليه"، مشدداً على أنّ استكشاف بلد ما لا يتمّ فقط من خلال صوره، بل من خلال اختبار نكهاته. فـ"الطعام هو تعبير وطريقة صادقة للتعرّف على بلد آخر".
المأكولات اللبنانية هي بحدّ ذاتها عامل جذب سياحي، حيث يقصد الزوّار لبنان لتذوق أطباقه التقليدية من الكبة والتبولة وورق العنب إلى البقلاوة. لكنّ ما يميّز هذه الأطباق ليس مكوّناتها فحسب، بل طريقة تقديمها في أجواء المشاركة والاحتفال.
أما بالنسبة إلى المغتربين، فيبقى المطبخ التقليدي الرابط الحي مع الوطن والحنين. ويقول مزوّق إنّ هذه الأطباق تمثّل الامتداد الطبيعي للذاكرة الجماعية. وعندما سألناه عن توسيع مشاريع مثل "طاولة" لتشمل المغتربين والأجانب، أجاب: "إن وجود مائدة لبنانية تقليدية في كل منطقة من مناطق الاغتراب هو أمر جميل وذو دلالة عميقة"، موضحاً أنّ "مشروع "طاولة" يمكن أن يشكّل مركزاً يذكّر بتاريخ المناطق التي أتى منها المغتربون".
وبالنسبة إليه، فان "حضور الطعام التقليدي في مدن الاغتراب ليس مجرّد ترف، بل وسيلة حيّة وفعّالة لتجسيد تاريخ لبنان، لا عبر كتاب أو متحف، بل من خلال مكان نابض بالحياة، تطهو فيه النساء الأطباق، ويروين من خلالها حكاية الوطن وأصول المهاجرين".
التواصل والكرم
لا تختصر المائدة بإشباع الجوع، بل هي مساحة للتواصل وبناء العلاقات، "الطعام هو من أكثر الأمور التي تجمعنا كلبنانيين بالرغم من تعدد المناطق واختلاف الأذواق وطريقة تحضير الوصفة الواحدة".

وتُشكّل المازة اللبنانية، المؤلّفة من مجموعة أطباق صغيرة يتقاسمها الحاضرون، نموذجاً لهذا البُعد الاجتماعي، حيث تمتد الجلسات لساعات في جوّ من الحكايات والضحك والدفء.
ويبقى كرم الضيافة سمة لبنانية أساسية، إذ يحرص اللبنانيون على استقبال الضيوف كما لو كانوا من أهل البيت، فلا يغادر أحد المائدة إلا ممتلئ المعدة والقلب.
نبض