البابوات في لبنان: بين التاريخ والرسالة الاجتماعية

لبنان 28-11-2025 | 06:45

البابوات في لبنان: بين التاريخ والرسالة الاجتماعية

شهد لبنان زيارات بابوية عدة تركت أثراً عميقاً في الحياة الكنسية الاجتماعية والسياسية.
البابوات في لبنان: بين التاريخ والرسالة الاجتماعية
البابا بندكتس السادس عشر والرئيس الأسبق ميشال سليمان في مطار بيروت. (أرشيفية)
Smaller Bigger

تشكّل زيارات البابوات إلى لبنان عبر التاريخ محطّات مفصليّة في مسار العلاقة بين الكنيسة الكاثوليكية والشرق الأوسط. فقد أولت حاضرة الفاتيكان لبنان مكانةً إستثنائيّة، رأت فيه أكثر من مجرد وطن بل "أرض رسالة"، نظراً الى موقعه الاستراتيجي في قلب الشرق وتعدديّته الدينية والثقافية. لم تقتصر هذه الزيارات على الطابع الديني فحسب، بل ارتبطت كذلك بظروف سياسية واقتصادية دقيقة. فجاءت حاملةً رسائل دعم ووحدة وتضامن، إضافة إلى تعزيز الحوار بين الطوائف والمذاهب في بلاد الأرز والمنطقة. في هذا السياق، تأتي زيارة البابا لاوون الرابع عشر المرتقبة امتداداً للتقليد الرسولي والاجتماعي الذي بدأ مع لاوون الثالث عشر ورسالة Rerum Novarum (1891) التي أرست أسس التعليم الاجتماعي الكاثوليكي.

ما زال لبنان أرضاً يتقاطع فيها البعد الإنساني للكنيسة مع احتياجات المجتمع، إذ اضطلعت المؤسسات الكنسية بدور أساسي في التعليم والخدمات الاجتماعية والرعاية الصحية. ومع كل زيارة بابوية، كان هذا الحضور يُجدَّد، ليؤكد أن اهتمام الفاتيكان بلبنان ليس مجرد بُعد روحي، بل هو أيضاً التزام عملي دفاعاً عن الإنسان، وعن كرامته، ووقوف إلى جانب المجتمع في أصعب الأزمات.

البابوات في لبنان: محطات وتحوّلات
شهد لبنان زيارات بابوية عدة تركت أثراً عميقاً في الحياة الكنسية الاجتماعية والسياسية.

زيارة البابا بولس السادس: اهتمام الفاتيكان بلبنان
كانت زيارة البابا بولس السادس سنة 1964 إلى الأراضي المقدسة حدثاً استثنائياً في حينه، وقد شملت لبنان عبر توقّف قصير في مطار بيروت. ورغم قصرها، اتّسمت بأهمية خاصة في ظلّ أول حضور مباشر لبابا روما في لبنان، وأول رسالة علنية من الفاتيكان تؤكد اهتمامها بهذا البلد.

كان لبنان حينها في أوج ازدهاره الاقتصادي والسياسي، يُعرف بـ"سويسرا الشرق"، لكنّه أيضاً على أبواب تحوّلات كبيرة سبقت اندلاع الحرب الأهلية. وجاءت الزيارة لتثبّت موقع الكنيسة اللبنانية في قلب العلاقة مع الكرسي الرسولي، ولتفتح الباب أمام زيارات لاحقة تحمل طابعاً أعمق وأكثر فعاليّةً.

زيارة البابا يوحنا بولس الثاني: لبنان أرض الرسالة
تُعدّ زيارة البابا يوحنا بولس الثاني في أيار 1997 الأكثر تأثيراً في تاريخ لبنان الحديث. فقد جاءت في لحظة دقيقة تلت انتهاء الحرب اللّبنانيّة، وفي ظلّ عهد الوصاية السورية الذي ترك بصمته على الحياة السياسية والمؤسسات الدستورية، وفرض واقعاً يقيّد حركة الدولة ويُثقل دورها السيادي. في هذه المرحلة المربكة، بدا اللبنانيون في حاجة ماسة إلى خطاب يرمّم الثقة ويعيد التوازن الروحي والوطني.

من هنا اكتسبت الزيارة بُعداً استثنائياً، لأنها حملت إلى اللبنانيين رسالة رجاء وأمل بأن الخروج من زمن الظلم ممكن، كما أنّ إعادة بناء الدولة ليس مجرد مشروع سياسي، بل مسار يرتبط بكرامة الإنسان وحريته. ولعلّ أبرز ما رسّخته الزيارة هو إطلاق السينودس الذي حمل عنوان "رجاء جديد للبنان". لم يكن السينودس حدثاً كنسياً فحسب، بل وثيقة رؤية وطنية دعت إلى تجديد العيش المشترك، وصون السيادة، وتعزيز العدالة الاجتماعية، وإعادة الاعتبار الى دور لبنان الرسالة في محيطه.

وفي هذا السياق، تحوّلت زيارة 1997 إلى لحظة جامعة بين نداء الفاتيكان للحرية والكرامة، وبين توق اللبنانيين لعبور حقيقي نحو دولة قادرة على النهوض من جروح الحرب رغم تحديات الوصاية وتقلّبات المرحلة. وبمناسبة الذكرى الأولى لمجيء يوحنا بولس الثاني الى لبنان، أعلن الفاتيكان تقديس نعمة الله الحرديني في 10 أيار 1998.

السينودس من أجل الشرق الأوسط : مقاربة شاملة
بعد حوالى عقد على زيارة البابا يوحنا بولس الثاني، وفي ظل التحديات المستمرة التي تواجهها الكنيسة في الشرق الأوسط، دعا البابا بينيديكتوس السادس عشر إلى عقد سينودس خاص بالشرق الأوسط في روما امتدّ من 10 الى 14 تشرين الأول 2010. اجتمع حينها أساقفة من مختلف الكنائس الكاثوليكية في المنطقة لمناقشة أوضاع المسيحيين في الشرق الأوسط. وتمحورت أهداف هذا السينودس حول تعزيز الشهادة المسيحية والحوار بين الأديان. وإن لم يكن السينودس مخصّصاً للبنان وحده، فقد احتلّ هذا البلد حيّزاً أساسياً في النقاشات باعتباره نموذجاً للتعددية، وملاذاً للمسيحيين في المنطقة.

زيارة البابا بينيديكتوس السادس عشر: الحوار في مواجهة التطرّف
تلت هذه المحطات زيارة البابا بينيديكتوس السادس عشر في أيلول 2012، والتي حلّت في ظل تداعيات الربيع العربي وتأثيراته على المنطقة. تركزت أهداف البابا من مجيئه الى لبنان على تثبيت الشهادة المسيحية والحفاظ على الحوار بين الأديان، خصوصاً بين المسلمين والمسيحيين، وذلك غداة التحديات الأمنية والسياسية التي عصفت بالبلاد. خلال الزيارة، وقّع البابا الإرشاد الرسولي: "الكنيسة في الشرق الأوسط: شركة وشهادة"، والذي أكد ضرورة الحفاظ على التعددية اللبنانية ووقف نزيف هجرة المسيحيين من البلاد، داعياً إلى السلام العادل والاستقرار في المنطقة. وقد ساهم هذا اللّقاء في تعزيز مكانة لبنان كأرضٍ للتلاقي بين الديانات والثقافات المختلفة، مشدّداً على دوره التاريخي في خدمة الحوار والسلام.

زيارة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان "حجّ من أجل السلام"
أعلن الكرسي الرسولي أنّ زيارة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان تأتي في إطار "حجّ من أجل السلام"، مشدداً على أنّها تحمل طابعاً استثنائياً نظراً الى دقّة المرحلة التي يمرّ بها البلد، خصوصاً أنّه على شفير تحوّل خطير وعلى مشارف تهديدات جديدة بالتصعيد. ومن هذا المنطلق، سيحمل البابا ً رسالة دعم روحي وإنساني الى شعب يواجه أحد أصعب ظروفه منذ الاستقلال، وسط تصاعد التوترات على الحدود الجنوبية وتفاقم الانهيار الداخلي.

وتمثّل الزيارة كذلك، رمزاً معنوياً ورسولياً يهدف إلى منع انزلاق لبنان نحو مواجهة جديدة، وتشجيع كل المبادرات الساعية إلى تثبيت الاستقرار وتعزيز الحوار بين جميع المكوّنات اللبنانية.

وسيوجّه البابا لاوون الرابع عشر في لقاءاته الرسمية والشعبية نداءً أساسيّاً لضرورة صون كرامة الإنسان، وترسيخ السلام المبني على العدالة، وعودة الدولة إلى أداء دورها في حماية المواطنين وتعزيز الثقة بالمؤسسات. وقد تهدف الزيارة أيضاً إلى إعادة وضع لبنان على خارطة الاهتمام العالمي، بعدما تراجعت أولوياته في ظلّ الأزمات الإقليمية والدولية المتلاحقة.

من لاوون الثالث عشر إلى لاوون الرابع عشر: التعليم الاجتماعي في خدمة لبنان
حين أصدر البابا لاوون الثالث عشر رسالته التاريخية Rerum Novarum  (الأوضاع المستجدّة) عام 1891، دشّن مساراً جديداً في علاقة الكنيسة الكاثوليكية بالقضايا الاجتماعية. فقد هدفت الرسالة الى مواجهة تداعيات الثورة الصناعية كتفكيك العائلات، وتفاقم الفوارق الطبقية، وارتفاع صرخات العمال المقهورين. فأكدت هذه الوثيقة حينها أنّ الكنيسة مدافعة عن كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية.

ورغم أنّ الرسالة وُجّهت في الأساس إلى أوروبا الصناعية، إلا أن صداها لم يلبث أن تعدّى حدود الغرب ليبلغ مجتمعات أخرى، بينها لبنان الذي كان يعيش آنذاك في ظلّ هيمنة السلطنة العثمانية وعلى عتبة تحولات اقتصادية واجتماعية عميقة. وانطلاقاً من Rerum Novarum، وجدت الكنيسة في لبنان مرجعاً وملهماً، فأسّست فيه المدارس والمستشفيات والمؤسسات الاجتماعية التي حملت التعليم الكاثوليكي إلى قلب المجتمع، وساهمت في بلورة هوية وطنية قائمة على العدالة والتربية والخدمة العامة.

ظلّت البلاد ساحة حاضنة للتعليم الاجتماعي للكنيسة. ففي الإرشاد الرسولي "رجاء جديد للبنان" (1997)، عاد البابا يوحنا بولس الثاني ليؤكد أنّ الأزمة اللبنانية ليست سياسية فحسب، بل اجتماعية أيضاً وتستوجب إعادة بناء الدولة على أسس العدالة والتضامن.

الى ذلك، تكتسب زيارة الحبر الأعظم الى لبنان معنى أبعد من الطابع البروتوكولي أو الرعوي. إنها أشبه بترجمة حيّة لـ Rerum Novarum في السياق اللبناني المعاصر، إذ تعيد إلى الواجهة المبادئ نفسها: كرامة الإنسان، العدالة الاجتماعية، التضامن بين الفئات، وتفعيل مسؤولية الدولة لتعزيز الخير العام. وفي هذا السياق، يبدو البابا لاوون الرابع عشر امتداداً حيّاً لخط تاريخي بدأه سلفه لاوون الثالث عشر. خطّ يرى أن خلاص الشعوب لا يكتمل إلا حين تتوازن الروح مع العدالة، والإيمان مع خدمة المجتمع.

إنّ لبنان اليوم بحاجة أكثر من أيّ وقت مضى إلى هذا النفس الرسولي الذي ينبّه قادته الى أنّ السياسة ليست لعبة مصالح بل رسالة خدمة، كما يذكّر شعبه بأنّ نهضة الأوطان لا تقوم إلا على أسس التضامن والكرامة، وهي القيم التي شكّلت وما زالت جوهر التعليم الاجتماعي للكنيسة منذ أكثر من قرن.

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/11/2025 6:15:00 AM
قذائف المزّة والعمليتان اللتان لم يفصل بينهما شهر تحمل رسائل تحذيرية إلى الشرع وحكومته، والرسالة الأبرز مفادها أن القصر الرئاسي تحت مرمى الصواريخ.
المشرق-العربي 12/11/2025 2:25:00 AM
إنّها المرة الأولى التي تتهم المنظمة "حماس" وفصائل أخرى بارتكاب جرائم ضد الانسانية.
المشرق-العربي 12/11/2025 2:10:00 PM
شدد على ضرورة منح المحافظة حكماً ذاتياً داخلياً أو نوعاً من الإدارة الذاتية ضمن سوريا كوسيلة لحماية الأقليات وحقوقها.
اقتصاد وأعمال 12/11/2025 10:44:00 AM
تكمن أهمية هذا المشروع في أنه يحاول الموازنة بين 3 عوامل متناقضة: حاجات المودعين لاستعادة ودائعهم بالدولار الحقيقي، قدرة الدولة والمصارف على التمويل، وضبط الفجوة المالية الهائلة التي تستنزف الاقتصاد