"أوستبوليتيك" ترامب... عودة إلى نقطة الصفر
لم يكن سوى رسم كاريكاتوري.
لكنه كان بليغاً في نقل الواقع، ودقيقاً في استشراف المستقبل.
"لماذا هذه الضجة حول خط بسيط للأنابيب؟"، يتعجب رجلان، فرنسي وألماني.
كان الرجلان واقفين عند مخرج أنبوب للطاقة آتٍ من وراء حدود أوروبا الغربية. المشكلة أن مدخل الأنبوب لم يكن عبارة عن مضخة، بل عن دبابة سوفياتية.
كانت تلك الصورة من ابتكار الرسام بيل مولدين في صحيفة "شيكاغو صن-تايمز" سنة 1982.
"أوستبوليتيك"
حتى في أوج العلاقة السياسية والأمنية بين الأميركيين والأوروبيين الغربيين، لم يتبادل الطرفان الرسائل عبر موجة موحدة دوماً. الـ"أوستبوليتيك"، أو "السياسة الشرقية" الجديدة التي اعتمدتها ألمانيا الغربية بقيادة المستشار فيلي برانت، هي مثلٌ على ذلك.
رأى برانت أن بإمكان حكومته إدخال "التغيير عبر التقارب" مع الاتحاد السوفياتي، فعقد اتفاقات عدة معه سنة 1970، في طليعتها بناء خط أنابيب لاستجرار الغاز والطاقة. وعدَ برانت الغربيين بأن خطواته لن تجعل ألمانيا الغربية معتمدة على الاتحاد السوفياتي. لكن تلك السياسة أقلقت إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون.
هل يبدو ذلك مألوفاً؟
هو كذلك. لا يزال الجدل حول خطي أنابيب "نورد ستريم" 1 و2 ماثلاً في الأذهان. تابعت الحكومات الألمانية اللاحقة، بجناحيها المحافظ والاجتماعي، سياسة وبراهين برانت نفسها. كل المخاوف المتفاوتة لدى المسؤولين في أوروبا الشرقية والولايات المتحدة وُضعت جانباً لمصلحة فكرة أن التجارة توطد العلاقات بين الدول وتجعلها أبعد عن شن الحروب.
حتى حين كان يبحث مع إدارة الرئيس بايدن الحصول على الضوء الأخضر لـ "نورد ستريم 2"، رفض المستشار الألماني السابق أولاف شولتس التعهد بوقف المشروع في حال حصول الاجتياح الروسي لأوكرانيا، (ألغاه لاحقاً). أتى ذلك بعد فرض الإدارة الأولى للرئيس ترامب عقوبات على الشركات المنخرطة في العقد.
لكن ترامب أوقف المشروع، ولو جزئياً، لأنه لم يحمل بصمته الخاصة، أو على الأقل لأنه لم يجلب فائدة ملموسة للولايات المتحدة، في خطوة تشبه إلى حد كبير سبب انسحابه من الاتفاق النووي مع إيران.
والدليل واضح
تحمل خطة الإدارة الأميركية للسلام في أوكرانيا الفلسفة نفسها التي جسدتها سياسة الـ"أوستبوليتيك". الفارق هذه المرة أن أميركا نفسها ستكسب فوائد اقتصادية من السلام المحتمل، مثل تعدين الأتربة النادرة في القطب الشمالي الروسي ورحلات روسية-أميركية (تشمل شركة إيلون ماسك) إلى المريخ، بحسب "وول ستريت جورنال". ويبدو أن الموفد الخاص ستيف ويتكوف وعدَ أوكرانيا بمكاسب أخرى مثل عمل جنودها في شركات أميركية وحصولهم على رواتب شبيهة بتلك التي يتقاضاها موظفو وادي "سيليكون".
باختصار، إن الأميركيين سيكتشفون، كما فعلت ألمانيا سابقاً، أن الحروب لا تتوقف بفضل وعود اقتصادية، إلا إذا كان أطرافها يخوضونها أساساً بناء على دوافع كهذه. لكن الحرب الروسية على أوكرانيا تجد جذورها في ما قاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سنة 2008 لنظيره الأميركي آنذاك جورج بوش الابن: "أوكرانيا ليست دولة حتى".
نقطة مضيئة لترامب؟
يقدّم التاريخ مفارقة إيجابية لترامب. فبرانت الذي أطلق الـ"أوستبوليتيك" حصد جائزة "نوبل" للسلام سنة 1971 لأنه سهّل الحوار بين الشرق والغرب. في نهاية المطاف، قد يفتح السلام ولو الموقت في أوكرانيا باباً مشابهاً أمام الرئيس الأميركي.
لكن في مقابل كل نقطة مضيئة لترامب، أخرى مظلمة لأوروبا.
نبض