احتفاء ترامب التاريخي بممداني في البيت الأبيض… هكذا يكون الحب

دوليات 23-11-2025 | 16:21

احتفاء ترامب التاريخي بممداني في البيت الأبيض… هكذا يكون الحب

بدا ترامب ترامب آخر، غير الذي نعرفه نزقاً صريحاً حد الفظاظة مقرّعاً بلا تمييز مساعديه أو الصحافيين أو الخصوم أو حتى رؤساء الدول الضيوف (المسكين فولوديمير زيلينسكي مثالاً)
احتفاء ترامب التاريخي بممداني في البيت الأبيض… هكذا يكون الحب
الرئيس الأميركي دونالد ترامب وعمدة نيويورك زهران ممداني.(أف ب)
Smaller Bigger

لم يذهل دونالد ترامب جمهوره وخصومه والعالم وحتى زهران ممداني فحسب. على الأرجح أن لطف الرئيس الأميركي بعد استقباله عمدة نيويورك "الشيوعي الجهادي" الخميس الفائت أذهل حتى دونالد ترامب نفسه.

في اللقاء المشهود مع المراسلين، عقده ترامب جالساً خلف مكتبه الرئاسي في المكتب البيضاوي، والعمدة الاشتراكي لقبلة الرأسمالية، واقفاً إلى يمينه، بدا ترامب ترامب آخر، غير الذي نعرفه نزقاً صريحاً حد الفظاظة مقرّعاً بلا تمييز مساعديه أو الصحافيين أو الخصوم أو حتى رؤساء الدول الضيوف (المسكين فولوديمير زيلينسكي مثالاً).

 

الرئيس الأميركي دونالد ترامب وعمدة نيويورك زهران ممداني.(أف ب) .
الرئيس الأميركي دونالد ترامب وعمدة نيويورك زهران ممداني.(أف ب) .

 

 

كان ترامب دمثاً ولائقاً ولطيفاً بل وحتى داعماً للعمدة الشاب إلى درجة استحالت فيها رقته الخبر الذي أطلق التحليلات والتكهنات ومئات الميمز أكثرها خفة دم تلك التي يشير فيها ترامب إلى ممداني مبتسماً برضا شديد، مع التعليق اللماح: "أبي يستعرض قطته التي لم يكن يريدها".

هكذا عامل ترامب ضيفه الذي وصل من نيويورك إلى واشنطن على متن مقعد في الدرجة الإقتصادية للطائرة، وهو تعبير مخفف للدرجة الثانية أو الثالثة، أي الأرخص ثمناً. بل إنه ذهب أبعد من معاملة ممداني كقطة لطيفة إلى تقديمه ابناً يفخر بانجازاته ويدافع عنه بل وينقذه في اللحظات المحرجة إذ يجيب المراسلة بالنيابة عنه إنه لا يأبه لتعبير "فاشي" الذي نعته به ممداني سابقاً، ويربت بكلتا يديه على الذراع المذهول للعمدة الجديد.  

الرئيس الأكثر إثارة للجدل في تاريخ أميركا هو نفسه الرئيس الذي لا يمكن توقع ردة فعله. كان بإمكانه أن يكفي اليمين واليسار والوسط شر الانفعالات التي أفلتت على غاربها، ويلتقي بالاشتراكي المهاجر خلف أبواب موصدة. لكنه لو فعل ذلك لن يكون دونالد ترامب.   

وترامب الذي يثبت مرة بعد مرة أنه لم يولد البارحة، لم يكن يرّد اللطف بمثله، إذ بادل الود مع خصمه الذي لم يكن مضطراً في الأساس إلى طلب الاجتماع به، الأمر الذي وافق عليه ترامب من دون أن يرمش، مما أثار توقعات بأن الضيف سيخضع لتقريع زيلينسكاوي عنيف. 

للنضج والهدوء اللذين خرج بهما ترامب أسبابهما العديدة المحتملة، آخرها أنه رئيس أميركا غير المضطر إلى مصارعة، أما أوّلها فيمكن قراءته من خلال العودة إلى برنامج التلفزيوني الشهير، "المتدرب"، الذي كان يقوم على فكرة أساسية وهي أن شباناً وشابات يتنافسون على إثارة إعجابه بذكائهم واجتهادهم ونجاحهم في تنفيذ المهمات الصعبة.

وممداني، بعيداً عن التوجه السياسي النقيض للرئيس، ملأ عن غير قصد منه كل خانات لائحة ما يثير إعجاب ترامب. شاب صعد من المجهول التام ليهزم قامة ديموقراطية ونيويوركية مكرسة مثل أندرو كومو، ليس مرةً واحدة، بل مرتين. ثم أن ممداني متحدث وخطيب ممتاز، لا تنقصه الجرأة لتسمية الأشياء بأسمائها من دون مراعاة لأحاسيس أحد. 

ثم أنه، مثل ترامب، أتى من خارج المنظومة السياسية القائمة، وإن كانت ديموقراطية حزبياً، ومن خارج الرضا المباشر لكبارها، مثل تشاك شومر وغيره، وخاض معركة أوليّة ضد حزبه، تماماً كما حين خاض ترامب انتخاباته التمهيدية في العام 2016 باسم الحزب الجمهوري لكن ضد قيادته الصلبة.

وممداني، في فترة زمنية قياسية بقصرها، استحوذ على قلوب الفئة الشابة الأعز على ترامب، والتي يعتبر إثارة انتباهها واستدراجها إلى السياسة إنجازاً بحد ذاته، بغض النظر يمينية كانت أم يسارية. والحب الذي تلقى به ترامب ممداني لا بد أن يترك أثراً إيجابياً ما في القاعدة الشعبية الكبيرة للوجه الصاعد على مستوى أميركا برمتها، وليس فقط مدينة نيويورك. وفي أكثر من مرة خلال اللقاء المشترك مع الصحافيين، ذكر ترامب أن مريدي السناتور بيرني ساندرز اقترعوا لمصلحته بعد خسارة شيخ الإشتراكيين في الانتخابات التمهيدية أمام عدوة ترامب اللدودة هيلاري كلينتون في العام  2016.

مفارقة أخرى لا يمكن تخطيها تكمن في الحفاوة الترامبية المبالغ بها مقارنة بالفتور الهائل الذي استقبل به الحزبيون الديموقراطيون فوز ممداني بنسبة اقتراع من الأعلى في تاريخ المدينة. وإذا كان لطف ترامب في الشكل ليس ملحاً كافياً على جرح الديموقراطيين، فقد سكب المزيد منه إذ قال إنه مستعد للعيش في نيويورك في ظل عمادة ممداني، هو الذي هوّل به كومو إذ تنبأ أن دبابات ترامب ستجتاح شوارع المدينة إذا فاز ممداني.

هل كان ترامب يحاول دق إزميل أنيق في الشرخ الواسع أصلاً بين الديموقراطيين التقليديين وبين الإشتراكيين الصاعدين في الحزب الخصم؟ التحليلات ذهبت إلى أنه نسف السياق الذي توسله الجمهوريون بوصم الحزب الديموقراطي برمته بصورة ممداني "الجهادي الشيوعي"، وهي صورة تؤمن للجمهوريين نفوراً عاماً من الحزب الديموقراطي، ونفوراً خاصاً خلال الانتخابات النصفية العام المقبل.

لكن المنافس الإشتراكي، خارج نيويورك طبعاً، هو خصم أسهل للجمهوريين من الديموقراطي المعتدل المكرس. وهذا رأي ترامب منذ زمن بعيد، مذ قال إن بيرني ساندرز أقصي ظلماً من ترشيح الحزب الديموقراطي له في وجه هيلاري كلينتون لأن ترامب، في حينها، كان ليسحق ساندرز في الانتخابات الرئاسية. وصعود الإشتراكيين على حساب منافسيهم في الحزب الديموقراطي خبر انتخابي جيد للجمهوريين، بعكس إحباطهم العام بعد الاستقبال غير المسبوق للجهادي الأحمر في البيت المُذهّب. ترامب، المحترف العتيق بالتلاعب بالإعلام والجماهير معاً، يعرف مصلحة الجمهوريين أكثر مما يعرفونها، أو هذا على الأقل ما بدا في اللقاء المشهود الذي أثار اهتمام الإعلام به استغراب الرئيس إذ قارنه ببرودة الصحافيين مع لقاءاته برؤساء دول.  

هكذا، وبدلاً من تقريع الضيف المحبوب ذي الابتسامة الهادئة والحجة الحاضرة، وتوحيد الرأي العام الديموقراطي خلفه باعتباره مظلوماً، فضل ترامب معاملته برقة غير معهودة وعدم الوقوف عند نقاط خلاف جذرية بينه وبين ممداني أهمها مهام "وكالة الهجرة والجمارك" ICE التي وعد ممداني بمواجهتها، كما عدم توقفه عند الأسئلة المحرجة التي وجهت لممداني منها تبنيه مصطلح "الإبادة" في وصف الحرب الإسرائيلية على غزة، وتبرير ترامب لممداني حول نية الأخير القبض على بنيامين نتنياهو في حال زيارته نيويورك.

ثم إن نيويورك بلد ترامب ومسقط رأسه، المدينة التي لا بد منها مهما طال سفره، إن صوب فلوريدا أو واشنطن، وأن يكون إلى جانب عمدتها الشعبي جداً بدليل الأصوات التي نالها، أفضل من أن يكون ضده، عند شخص مثل ترامب تكاد سيرته الذاتية تتلخص في بحثه عن الاعتراف به، والوقوع في حبه.

اللطف سلاح فعال جداً، وقد اعتمده البراغماتي الكبير في لقائه مع ممداني، وذهب به، كعادته مع كل شيء، إلى النهاية، حتى يكاد لا يكون بعيداً عن الواقع، تخيل ترامب وهو يهدي ممداني خلال لقائهما نسخة من الطبعة الأولى من البيان الشيوعي موقعة من كارل ماركس وفردريك إنغلس، وقد أضاف إليهما ترامب من عنده عبارة "يا عمال العالم اتحدوا"، مذيلة بتوقيعه الشهير، بقلم أحمر.  

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/10/2025 6:25:00 AM
تحاول الولايات المتحدة تذويب الجليد في العلاقات بين إسرائيل والدول العربية من خلال "الديبلوماسية الاقتصادية"
تحقيقات 12/10/2025 8:10:00 AM
يعتقد من يمارسون ذلك الطقس أن النار تحرق لسان الكاذب...
شمال إفريقيا 12/10/2025 6:38:00 AM
على خلاف أغلب الدول العربية، لم يحدث أي اتصال بين تونس ودمشق، ولم يُبادر أيٌّ من البلدين بالتواصل مع الآخر بشكل مباشر أو غير مباشر.
شمال إفريقيا 12/10/2025 6:44:00 AM
الرغبة الجامحة لدى البابا في زيارة الجزائر قابلتها العديد من التساؤلات حيال الخلفيات التي جعلته يولي هذا الاهتمام ببلد عربي أفريقي لم يذكر غيره بهذا الزخم المعرفي من قبل.