انقسامات صامتة تهز لغة الفيدرالي… والخليج يقتفي الخفض على وقع ربط العملات بالدولار
قرار الخفض ربع نقطة مرّ بصعوبة غير معتادة داخل اللجنة، ومعه خرجت إلى الضوء معارضات صامتة تكشف تبدلًا في موازين القوة داخل الاحتياطي الفيدرالي. الرسالة السياسية أن خفض 2026 ليس مضموناً، والرسالة التشغيلية أن البنك يسير على خيط رفيع بين سوق عمل تباطأ وتضخم ما زال أعلى الهدف. في الجوار، كررت البنوك المركزية الخليجية الخفض 25 نقطة أساس انسجاماً مع ربط عملاتها بالدولار، لكن مع حسابات محلية دقيقة للسيولة والتسعير الائتماني.
مجلس منقسم ولغة انضباط جديدة
خفضت اللجنة الفيدرالية سعر الفائدة المستهدف إلى نطاق 3.75%–4% بتصويت 10 مقابل 2، إلا أن بنية الاعتراض أهم من الرقم. معارضتان طالبتا بتثبيت الفائدة، واعتراض ثالث دفع لخفض أكبر، فيما ظهرت طبقة أعمق من الرفض عبر ما سُمّي بالمعارضات الصامتة: ستة صناع سياسة مشاركين وضعوا توقعاتهم لنهاية 2025 في نفس نطاق ما قبل الخفض، أي أنهم عملياً ضد الخطوة. الإشارات المساندة تخرج من ساحات مجالس إدارات الفروع الإقليمية التي توصي عادة بمعدل خصم يسير مع الفائدة الأساسية؛ أربعة فروع فقط أوصت بالتخفيض، ما يعني أن الكتلة الحذرة متمركزة لدى الرؤساء الإقليميين أكثر من مجلس المحافظين في واشنطن. في مؤتمره الصحفي، قدم جيروم باول إطاراً صريحاً للحيرة: مخاطر صعود للبطالة وصعود للتضخم في آن، وأداة واحدة لا تستطيع فعل شيئين متعارضين معاً. هذه اللغة ليست تلطيفاً بقدر ما هي إعادة تعريف لهامش المناورة.

اقتصاد بلا بيانات يوسع الضباب
الإغلاق الحكومي جفف نهر المؤشرات الرسمية ودفع الاقتصاديين إلى مصادر بديلة متفرقة، من مطالبات إعانة بطالة أسبوعية على مستوى الولايات إلى مسوح خاصة. هذا الفراغ الإحصائي لا يغير الحقائق العميقة لكنه يزيد كلفة القرار ويخفض تسامح اللجنة مع التوجيه المسبق. لذلك، جاء التحذير المبكر بأن خفض ديسمبر "بعيد عن أن يكون أمراً مفروغاً منه" بمثابة ركن زاوية للتسعير: تقليص يقين السوق وإعادة توزيع الاحتمالات حول الوقوف المؤقت لمراقبة البيانات حال عودتها. في بيئة كهذه، يصبح كل رقم لاحق عن سوق العمل أو تضخم الأسعار مضاعف الأثر على السندات ومنحنى العائد وشهية المخاطرة.
2026 اختبار القيادة قبل أن يبدأ
الانقسامات المعلنة والصامتة ترسم مشهداً صعباً لأي رئيس جديد للفيدرالي في 2026. حتى في ظل رأس هرم يحظى باحترام واسع داخل اللجنة، خرجت ثلاثة اعتراضات إلى المحضر؛ فكيف سيكون المشهد مع قائد جديد يسعى لاصطفاف سريع وسط اختلافات مبدئية حول وتيرة التيسير وحدود المخاطرة على جبهة الأسعار والوظائف. أسماء مطروحة لخلافة باول، وحديث عن مرشحين ذوي ميول مختلفة، لكنها جميعاً ستصطدم بتعدد مدارس التفكير داخل اللجنة وبضغوط البيت الأبيض المتزايدة على سرعة الخفض. النتيجة المرجحة ليست شللاً مؤسسياً، بل ارتفاع وتيرة الاعتراض بوصفه أداة تأثير داخلية، ما يجعل الإجماع حدثاً استثنائياً لا قاعدة عمل. ويظهر الاسم اللامع كافن هاست، المتعارف عليه من رجالات البيت الأبيض، والذي يميل إلى تخفيضات فائدة أسرع؛ إلا أنه قد يصطدم ببيانات اقتصادية ومجلس منقسم منذ البداية.
عدوى القرار عبر الخليج… خفض متزامن بحسابات محلية
بمجرد صدور قرار الفيدرالي، خفضت البنوك المركزية في الخليج 25 نقطة أساس بحكم ربط العملات بالدولار وتماسك قنوات انتقال السياسة. المصرف المركزي الإماراتي أنزل سعر الأساس على تسهيلات الإيداع لليلة واحدة من 3.90% إلى 3.65%، فيما خفض البنك المركزي السعودي معدل اتفاقيات إعادة الشراء إلى 4.25% والريبو العكسي إلى 3.75%. القرارات شملت قطر والبحرين والكويت وعُمان بالقدر نفسه، مع الإشارة إلى خصوصية الدينار الكويتي المربوط بسلة عملات. هذا التزامن لا يعني تطابقاً في الظروف؛ فأسواق النقد المحلية ستعيد تسعير الودائع والقروض تبعاً لوفرة السيولة وهيكل الائتمان، بينما ستتعامل الخزائن مع منحنيات عائد محلية تتأثر بسندات الخزانة الأميركية وبفروق المخاطر السيادية. النتيجة العملية أن تكلفة التمويل بالدرهم والريال والعملات الخليجية تتحرك نزولًا، لكن سرعة انتقال الأثر إلى القروض العقارية والتجارية ستعتمد على التنافسية المصرفية وهوامش المخاطر القطاعية.
ما الذي يعنيه ذلك للأسواق؟
سندات الخزانة تتلقى الإشارة أولًا، إذ يُضعف اليقين بخفض كانون الثاني/يناير المقبل الميل إلى تمديد السيولة ويعيد جزءاً من العلاوة الزمنية في الآجال القصيرة. الأسهم تقرأ المشهد على محورين: تكلفة رأسمال لا تهبط بالوتيرة المأمولة، ومفاجآت أرباح شركات الذكاء الاصطناعي التي باتت تنافس السياسة النقدية في تشكيل المزاج. الدولار يبقى الرابح المؤسسي طالما استمر الفرق في العائد لصالحه، لكن أي تدهور مفاجئ في بيانات الوظائف حال عودة النشر قد يعيد التوازن سريعاً. في السلع، خطاب المخاطر المزدوجة يعزز الطلب الدفاعي على الذهب والفضة عند الفترات الضبابية، وإن كانت تحركاتهما ستبقى رهينة مسار العوائد الحقيقية. وفي الخليج، تتزاوج السيولة الأرخص مع انتقائية أعلى في الائتمان، ما يدعم إصدارات الدين الحكومي وشبه الحكومي ويمنح الشركات الكبرى نافذة لإعادة تمويل أرخص، بينما يبقى نشاط الأفراد حساساً للأسعار العقارية وتوقعات الدخل.
إدارة الميزانية العمومية… تيسير بملامح مختلفة
إلى جانب الفائدة، تتقدّم إدارة السيولة إلى العناوين: وقف التشديد الكمي في كانون الأول/ديسمبر، وتكثيف عمليات إعادة الشراء الدائمة عند الحاجة، وإشارات إلى مشتريات احترازية قصيرة الأجل بغرض إدارة الاحتياطيات. هذه ليست عودة بالاسم إلى التيسير الكمي، لكنها تُنتج الأثر نفسه عندما تُستخدم بجرعات مركّزة؛ تخفيف اضطراب أسواق المال القصيرة وتقليص ذيول المخاطر. إن حدث ذلك بوتيرة أوسع، فسيحصل سوق الأصول الخطرة على دعم إضافي يتجاوز مسار الفائدة الاسمي، ويعيد تسعير شهية المخاطرة عالمياً.
.
نحن أمام فيدرالي يعترف علناً بضيق الهامش ويراهن على انضباط اللغة أكثر من وعودٍ كبيرة، وأمام خليج يتحرّك تلقائيًا مع الدولار لكن يحسب بدقة أثر كل نقطة أساس على السيولة والائتمان. ما سيحسم اتجاه المرحلة ليس التصويت المنقسم أو نبرة باول بحد ذاته، بل شكل عودة البيانات وصدق إشارات سوق العمل. هناك فقط سيتضح إن كان الاعتراضُ الاستثنائي مقدمة لنهجٍ جديد، أم محطة عابرة في طريق تيسيرٍ أبطأ… وأكثر حذراً.
** رئيس الأبحاث وتحليل الأسواق في مجموعة إكويتي
نبض