"تصفّح الورق يمنح شعورًا لا تستطيع الوسائل الرقمية توفيره" يقول المفكّر والكاتب هنري صفير، ويضيف: "لمسة الصفحات المكتوبة يبني علاقة مختلفة مع المعرفة، علاقة أعمق وأدقّ". من هذا الإحساس بالورق، تبدأ حكاية المكتبات المنزلية، لا بوصفها أماكن لتكديس الكتب، بل كفضاءات حيّة ترافق الإنسان في تكوين فكره ووعيه.

المفكّر والكاتب هنري صفير

وفي بيت آخر، يختصر زياد نجّار، نجل الكاتب الراحل مروان نجار، هذه العلاقة بصورة يومية بسيطة: "كبرنا والكتب معنا. بدأت مكتبة والدي رفوفًا متواضعة في غرفة الجلوس، ثم تمدّدت إلى الرواق وغرف النوم". ليست هذه تفاصيل عابرة في الذاكرة العائلية، بل مشهدًا تأسيسيًا لبيت تشكّلت ثقافته من حضور الكتاب الدائم، ومن اعتياد النظر إليه كجزء من الحياة وروتينها.

بين قول صفير عن الورق وذكريات نجّار عن البيت، تتجلّى أهمية المكتبات المنزلية بوصفها الرابط الخفي بين الثقافة والعادات اليومية، حيث يصبح البيت حاضنًا للمعرفة، وتغدو المكتبة جزءًا من هويته.

تلعب المكتبات في البيوت دورًا محوريًا في تشكيل الفكر وتنمية الثقافة، فهي ليست مجرد رفوف للكتب، بل فضاءات حيّة تحتضن العقول وتغذّي الروح. فالكتاب في المنزل ليس مصدرًا للمعلومة فحسب، بل رفيق خيال، ومحفّز إبداع، ومدرسة صامتة لتعليم القيم وتنمية التفكير النقدي لدى الأطفال والكبار على حد سواء. والمكتبة المنزلية، بهذا المعنى، تمثّل مساحة للتأمّل وملتقى للأفكار، ونافذة تطل على عوالم الأدب والفلسفة والفنون والتاريخ، ما يجعل البيت ينبض بالحياة الثقافية ويمنح ساكنيه تجربة معرفية متراكمة.

المكتبات المنزلية… منابر للحوار داخل البيت
لا يقتصر دور المكتبات المنزلية على البعد الفردي، بل يتعدّاه إلى بعد اجتماعي واضح. فهي تشجّع الحوار العائلي، وتعزّز النقاش الثقافي بين أفراد الأسرة، وتساهم في تكوين شخصيات واعية وقادرة على التعبير والنقاش. كما تمنح الكتب شعورًا بالطمأنينة والراحة النفسية، فتغدو ملاذًا للهروب من ضغوط الحياة اليومية، واستكشاف عوالم جديدة من الفكر والمعرفة.

هنري صفير والمكتبة بوصفها ضرورة
في هذا السياق، يشدّد هنري صفير على أنّ أساس أي فعل ثقافي حقيقي يبدأ من المكتبة. وكانت "النهار" قد زارت منزله الذي يحتضن مكتبة من طابقين تضم آلاف المجلّدات والمراجع، في مشهد يعكس علاقة عضوية بين البيت والكتاب. هذه المكتبة لا تُختزل بمكان لحفظ الكتب، بل تشبه مركزًا ثقافيًا حيًا يجمع القرّاء والمفكرين، ويؤدي دورًا فاعلًا في نشر الثقافة.

ويقول صفير: "أعتقد أنّ الشخص بحاجة إلى المراجع العلمية والأدبية ليستقي معلومات صحيحة، تتيح له الفهم والكتابة والغوص في حقيقة بعض المواضيع"، معتبرًا أنّ "المكتبة هي الملاذ الوحيد الذي يؤمّن كلّ ذلك". ورغم التطوّر التكنولوجي، يرى أنّ الحاجة إلى الكتاب ما زالت قائمة، لأن تصفّح الصفحات ولمس الورق يمنحان شعورًا لا تستطيع الوسائل الرقمية توفيره، فيما تبقى المعلومات السريعة، على كثرتها، عرضة للنقص وعدم الدقّة.

زياد نجّار: المكتبة كذاكرة عائلية حيّة
ومن التجربة الفكرية إلى الذاكرة العائلية، يستعيد زياد نجّار نشأته في بيت شكّل فيه الكتاب عنصرًا أساسيًا من الحياة اليومية. فمن رفوف متواضعة في غرفة الجلوس، توسّعت مكتبة والده الراحل مروان نجّار لتشمل الرواق وغرف النوم، قبل أن تتحوّل إلى مساحة ثقافية تضم اليوم نحو ثلاثة آلاف كتاب في الأدب والفلسفة والتاريخ والسياسة والاجتماع، إلى جانب الموسوعات والقواميس والمسرحيات.

ولا يتحدّث نجّار عن المكتبة بوصفها إرثًا مادّيًا، بل كحضور مستمر. فالأحفاد يدخلون مكتب الجد، يتصفّحون كتبه، ويكتبون له رسائل، في علاقة حيّة مع فكر لم ينقطع. هكذا، تبقى المكتبة وسيلة تواصل بين الأجيال، تحفظ الذاكرة، وتمنح الثقافة بعدها الإنساني العميق.

الثقافة ليست ترفًا
تُثبت هذه التجارب أنّ المكتبات المنزلية ليست ترفًا ثقافيًا، بل ضرورة لبناء وعي متماسك. فكل كتاب فيها هو جسر نحو فهم أعمق للذات والعالم، وكل مكتبة هي استثمار طويل الأمد في الفكر. وفي زمن السرعة الرقمية، تعيدنا هذه البيوت إلى العلاقة الهادئة مع المعرفة، وإلى قيمة التراكم الثقافي.

في النهاية، تؤكد المكتبات المنزلية أنّ البيوت التي تحتضن الكتب لا تسكنها الجدران وحدها، بل تسكنها الأفكار. وهي بيوت تؤسّس لثقافة حيّة، وتغرس في الأجيال حبّ القراءة، وتبني مجتمعًا قادرًا على مواجهة تحديات العصر بوعي ناضج وفكر نقدي.