نشر المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي تأبيناً مؤثراً لصديقه روب راينر وزوجته ميشيل، اللذين رحلا هذا الشهر في جريمة هزّت الأوساط الفنية الأميركية. وفي مقال خاص كتبه لصحيفة "نيويورك تايمز"، اختار سكورسيزي أن يودّع صديقيه بصوت شخصي حميمي لا بلغة النعي التقليدي، مستحضراً الصداقة والذاكرة في مواجهة فاجعة لا تزال تفاصيلها قيد التحقيق، مع اتهام نجلهما نيك راينر بارتكاب الجريمة.

اختار سكورسيزي يوم عيد الميلاد ليفتح نافذة نادرة على علاقته الطويلة بروب راينر، المخرج والممثل الذي جمعته به صداقة امتدت لعقود. وكتب بأسلوب مكثّف ومجروح: "روب راينر كان صديقي، وكذلك ميشيل. من الآن فصاعداً، سيتعيّن عليّ أن أستخدم صيغة الماضي، وهذا يملؤني حزناً عميقاً. لكن لا خيار آخر". جملة تختصر ثقل الفقد، وتؤسس لنص لا يسعى إلى تفسير ما حدث، بقدر ما يحاول إنقاذ الذاكرة من قسوة النهاية.

مارتن سكورسيزي على السجادة الحمراء. (أ ف ب)

تأبين سكورسيزي صديقه نصٌّ شديد الخصوصية، مشوب بالآلام، وموجع بصمت. في أعقاب مقتل روب وزوجته طعناً في منزلهما في برينتوود، في الرابع عشر من كانون الأول/ديسمبر، لا يلجأ سكورسيزي إلى التحليل ولا يتحصّن بالمسافة، إنّما يسلّم نفسه للذاكرة. مقال يولد من رحم الصداقة، ومن تاريخ مشترك، ومن ذلك العجز الإنساني العاري الذي يعقب عنفاً لا يمكن ترميمه.

يرسم سكورسيزي في مستهلّ النص الإطار العاطفي: "من الآن فصاعداً، سيتعيّن عليّ أن أستخدم صيغة الماضي". عبارة قصيرة، وقعها وقع الحكم النهائي، وما يليها رفض واضح لأن يسمح للفاجعة بأن تطمس اكتمال الحياة التي سُلبت.

يستعيد سكورسيزي جذور علاقته بصديقه في لوس أنجليس أوائل سبعينيات القرن الماضي، في قلب مشهد كوميدي كان آنذاك يُشبه نظاماً حيوياً خصيباً وفوضوياً، تتقاطع فيه الستاند أب، والارتجال، والسخرية، والسينما بلا قيود. كانت تلك حقبة النوادي الليلية المفتوحة، وإذاعات الثقافة المضادة، والتجريب. راينر، القادم من برونكس نيويورك، والحامل إرثاً عائلياً متيناً في عالم الاستعراض - هو نجل كارل وإستيل راينر - نقل تلك الروح معه إلى الساحل الغربي. بالنسبة إلى سكورسيزي، "كان حسّاً نيويوركياً خالصاً، مئة في المئة، في الهواء نفسه الذي أتنفّسه".

روب راينر وزوجته ميشيل. (أ ف ب)

الصورة التي تتشكّل صورة رجل يعرّفه سخاؤه قبل أيّ شيء آخر. يكتب سكورسيزي أن راينر لم يكن يوماً ممن يسعون إلى احتلال المساحة، ولا يُحدّد ملامح شخصية كوميدية صاخبة أو مهيمنة. كان ذكاؤه الفكاهي حاداً، وأحياناً لاذعاً، لكنه متجذّر في الفرح، في "حرية غير مكبوحة"، وفي ضحكة قادرة على أن تملأ قاعة بأكملها.

وعند تناوله الإرث الفني لراينر، يتعامل سكورسيزي بميزان دقيق، بعيد عن التهويل. يصف فيلم الرعب النفسي "بؤس " (Misery) بأنه "عمل خاص جداً"، ويضع "هوذا سبينال تاب" (This Is Spinal Tap) في مرتبة منفردة تماماً واصفاً إيّاه بأنّه "عمل متكامل بلا شوائب"، تتجلّى عبقريته بقدر ما في حضور راينر أمام الكاميرا، في سيطرته الإخراجية الصارمة خلفها. ثم يلتقي مسارهما المهني مجدداً في "ذئب وول ستريت" (The Wolf of Wall Street)، حيث أدّى راينر دور والد ليوناردو دي كابريو، في أداء يراه سكورسيزي درساً في الرهافة، وضبط النفس، والاستبصار المأسوي. ذلك الأداء، الذي باتت العودة إليه اليوم مؤلمة على نحو خاص، يختصر ما كان سكورسيزي يقدّره فيه أكثر من غيره: قدرته على الإحاطة بالمأزق الإنساني من دون الوقوع في فخ العاطفية الزائدة.

مارتن سكورسيزي وصديقه روب راينر. (Getty Images)

تُختتم المقالة من حيث بدأت: عند الحزن. يواجه سكورسيزي نهائية الموت عبر استحضار لحظة مستقبلية لن تتحقق أبداً: عشاء آخر، سهرة إضافية، ضحكة جديدة تعبر الطاولة. وبهذا الاستدعاء، يمنح صديقه شكلاً من أشكال الحياة اللاحقة في الذاكرة الحيّة.

يُذكّر هذا التأبين بأن خلف كلّ شخصية عامة عالماً خاصاً من الصداقات، والنكات المشتركة، واللحظات التي لا تُستعاد. وبرفضه اختزال روب وميشيل راينر في طريقة موتهما، ينجز سكورسيزي فعلاً أخيراً وضرورياً من الوفاء، محافظاً عليهما كما كانا دائماً: حيَّين في الذاكرة، ضاحكَين، ومحبوبَين.