في حديث الشعر (26)

في حديث الشعر (26)
فؤَاد سليمان وغسَّان تويني: نقاشٌ حول كلمة
Smaller Bigger

صحيح أَنَّ هذه السلسلة تَعَنْوَنَتْ بـ"حديث الشعر"، لكن النثر، كما ورَدَ كثيرًا فيها، هو تَوأَمُ الشعر. وتاليًا له قواعده ونُظُمُه. فكما للشعر أَوزانُه وبحورُه وقوافيه، كذا للنثر أَوزانُه وصيَغُهُ وسَجَعُه.
ومثلما تنضبطُ القصيدة بعروضها، تنضبط النثيرةُ بفُروضها. 
في هذه الحلقة تحيةٌ للشاعر والناثر المبدعَيْن في صياغة النص الجماليائي.  

الجمال والجماليا
أَفْصل هنا بينهما، وهما غير متماهيَيْن: الجمال (Beauty) هو المشغول سلَفًا، وغالبًا لا يدَ لنا فيه (الوردة، غروب الشمس، مشهد في الطبيعة، بسمة طفل جميل، ...). الجماليا (Esthetics) هي غالبًا عملٌ غيرُ مشغول سلَفًا، يعني مجموعة ظواهر أَو مظاهر أَو نصوص أَدبية (شعرًا أَو نثرًا) أَو عمل فني (موسيقيّ، تشكيليّ، كوريغرافيّ، بَصَريّ، ...)، ما يعني أَنه لا يوجد أَمامنا تلقائيًّا، بل يَلزَمُه مبدع كي يكون.

 

أَنطوان دوسانت إِكزوبِري: نثر مشغول كالشعر
أَنطوان دوسانت إِكزوبِري: نثر مشغول كالشعر

 

في المستويات
للنثر درَجاتٌ كما للشعرِ درجات. أَعلى درجاتِ النثر لا تَجعلُه شِعرًا، بل يبقى نثرًا فنيًّا عاليًا راقيًا صعبًا لا يؤْتى لأَيِّ ناثر. وأَدنى درجاتِ الشعر لا تَجعلُه نثرًا بل يكون نَظْمًا باردًا باهتًا لا شاعريةَ فيه. من هنا أَنَّ استعارة كلمة "شعر" أَو مفردة "قصيدة" لنصٍّ نثريٍّ، هي إِهانةٌ النثرَ، كما لو انَّ النثرَ قاصرٌ عن الإِبداع إِلَّا إِذا قيس بِمقياس الشعر، وهي إِهانةٌ الشعرَ الذي لن يَقْتَبلَ في حَرَمِهِ نصًّا نثريًّا مهما تأَنَّق إِبداعًا في نثريته. ويا طُوبى لِمَن يصقُل شعرَه ونثرَه فيُعطى، في شعره ونثره، نعمةَ الإِبداع في كلٍّ من القمَّتين. هكذا، لا تكون قمةُ الشعر أَعلى، ولا قمةُ النثر أَعلى. بل تتساويان في الإِبداع والأُصول. كلتاهما قمةٌ في ذاتها، تصعُب على مَن يَنشُدُ بلوغَها، ويشرِّفُه بلوغُها.

الإِزميل على الورق
يهنأُ الشاعر الشاعر على تينِك القمَّتَين، وينحَتُ على كلتيهما أَنضرَ الدوالِيِّ من شعر ونثر. أَقول "يَنحت" وأَقصُدُها تَمامًا، لأُشدِّد على أَلَّا يكتفي الشاعر باستعمال "الكلمة المناسبة في المكان المناسب"، بل وأَكثرُ تَشَدُّدًا: يتنخَّلُ للمكان المناسب كلمةً لا يُمكن أَن تكون إِلَّا هي، لا بديلَ عنها أَجملَ منها لهذا المكان. هذا هو النحتُ، نثرًا وشِعرًا، بإِزميل الجماليا. فالأَدبُ (شعرًا ونثرًا) ليس مضمونًا أَنيقًا دون أَناقةِ شكل، بل هو في الشعر آنَقُ بَثٍّ لآنقِ مضمون، وهو في النثر آنَقُ سبْكٍ لسَكْبٍ بَهِيّ. والشاعر الشاعر مَن يقَشِّر الكلماتِ (كمَن يقشِّر بتلات وردة) حتى لُبِّها الأَوَّل، حتى عناصرِها الأُولى، فيرُدُّها إِلى شهقتها البكر، ويستردُّها حبلى بِخُصوبةٍ من بَتوليةٍ جاهزةٍ لكل اقتبال، واعيًا أَنَّ الشاعر معماريُّ جماليا، وأَنَّ القصيدةَ عمارةٌ متساميةٌ إِلى فوقُ حيث الضياء، وليست مِشيةً عادية مبسَّطة إِلى بُعْدٍ أُفقي سَويٍّ، فيه كلُّ مَحكيٍّ ومكتوبٍ ومستهلَكٍ ومكرَّرٍ في كليشيهات عتيقةٍ بليدة. 

 

جوزف حرب: أَناقة في القصيدة والنثيرة
جوزف حرب: أَناقة في القصيدة والنثيرة

 

في شمس الموهبة
الشاعرُ الشاعر مَن لا يتبنّى الشكلَ الجامدَ أَجوفَ من الالتماع، ويرفضُ التحنُّطَ في مأْلوفِ كلامٍ مستهْلَكٍ وقوالبَ جاهزةٍ كلماتٍ وتعابيرَ وتراكيب. هو لا "يَكتب" قصيدته بل "يُعَمِّرها"، بل ينحتُها، بل يَحُوكُها، بل ينسُجها خيطًا خيطًا بِنَولٍ دقيقٍ بارع، فيكونُ في اللحظة ذاتها: المبدعَ الموهوبَ والحِرَفِيَّ الصَناع. وهذا ما شدَّد عليه بول فاليري: "الشاعرُ الموهوب يَختارُ اللفظة المناسبة لإِحداث الرِعشة النفسيَّة وإِحياءِ العاطفة الشعرية"، وهو ما نقَضَه الياس أَبو شبكة (في مقدمة "أَفاعي الفردوس") معتبرًا "الشاعر الموهوب لا طاقةَ له على اختيار اللفظة، ففي شعوره الزاخر ما يصرفه عن هذه الأُلهية. وعندي أَنَّ القصيدةَ تنْزل مرتديةً ثوبها الكامل". ولكنْ... في "تَسَرُّع" أَبو شبكة (وهو المجَدِّدُ الكبير والموهوب الكبير) ما يُضَلِّلُ اللامبدعين ويُعَرِّضُهم لِمُغامَرةِ السُهولة والاستسهال، وهذا يناقضُ أُصولَ الإِبداع الشعري. الشاعرُ الشاعر مَن لا يقدِّم لِمُتلقّيه الوردةَ كما هي عن أُمّها، بل ينقِّيها من شيخوخةِ طلْعٍ، ويهذِّب بتلاتِها من ذبولِ شفاهٍ، ليقدِّمها إِلى اليد الممدُودة وردةً تليقُ بصَدر الحبيبة أَو شَعرها، شَمًّا وتزيينًا وأَناقةَ أَرَج.

"بناء" القصيدة
الشاعرُ الشاعرُ مَن "يُعمِّر" القصيدة، فيزيدُ الزنبقَ تَعَنُّقًا ونصاعةً. النَظَّامُ كاتبُ بُحُورٍ وتفاعيلَ تتوكَّأُ على العمود الشعري شكْلًا وصَكَّ براءةٍ وشهادةَ حسْنِ سلوك، أَو تتوسَّلُ إِلقاءً منبَريًّا طنَّانًا مسرحيًّا يرفَعُ لهُ صوته عند قافيةٍ يُلْقيها عند نهاية البيت بنبرةٍ عاليةٍ فيستحثُّ تصفيقًا غريزيًّا تستدعيه أَكُفٌّ في القاعة تبدَأُ واحدةٌ منها فَتَجُرُّ وراءَها الأَكُفَّ تلقاءًا حماسيًّا أَو مسايَرَةً تَهذيبية لا علاقةَ لها بِمستوى القصيدة. 

 

أَلفونس دوديه: جماليا النثر المنحوت
أَلفونس دوديه: جماليا النثر المنحوت

 

المستسهلون
مَن يَتباهَون بسهولةٍ لديهم في أَنْ يكتبوا قصيدةً كاملةً دفعةً واحدةً (منظومةً مفعَّلَةً مقَفَّاةً جاهزةً) هُم نظَّامون ثرثارون وَزَّانون لا شِعرَ لديهم ولا شاعرية، لا موهبةَ ولا حتى صنعة. قد يَصلحون أَنْ يكونوا أَساتذةَ عروضٍ ناجحينَ في صفٍّ مدرسيٍّ، لكنهم لن يكتبوا في حياتهم بيتَ شعرٍ واحدًا. بَراعةُ التَقْفية التفعيلية لا علاقة لها بـبراعة التِقْنية الشعرية تراكيبَ واشتقاقاتٍ وتطويعَ صورةٍ لِمعنى مبتَكَرٍ في مبنى مبتكَر. 

إِذًا: لا الشعرُ في شقْع أَبياتٍ واحدها فوق الآخَر عموديًا في صدْرٍ وعَجُز، ولا النثر في شقْع أَسطر متناثرة في تفعيلة مدوَّرة.

الأكثر قراءة

العالم العربي 12/29/2025 6:20:00 PM
القادة هم: أبو عبيدة ومحمد السنوار ومحمد شبانة ورائد سعد وأبو عمر السوري.
اقتصاد وأعمال 12/29/2025 5:34:00 AM
"بات من مصلحة المكلفين التصريح عن مداخيلهم وتسديد الضرائب ضمن المهل القانونية، تفاديا لرفع السرية المصرفية عن حساباتهم"
النهار تتحقق 12/27/2025 11:17:00 AM
لحظة إنقاذ في الحرم المكي استثنائية، "بطولية" في وصف مستخدمين. ماذا عرفنا عن هذه الصورة؟ 
لبنان 12/29/2025 12:37:00 PM
سمير جعجع دعا إلى عدم التصويت لمحور الممانعة أو "التيار الوطني الحر"