في المغرب العربي لا يبدأ الخلاف دائماً بسبب قضايا كبرى، فقد يحدث أن تندلع شراراته الأولى من المطبخ، أو من خزانة الملابس، أو من أغنية قديمة تحفظها الجدّات أكثر ممّا تحفظها الأرشيفات الرسمية. هناك في تلك الرقعة من شمال أفريقيا، رغم أن الطقوس والعادات والأكلات وحتّى اللهجات تتشابه إلى حدّ كبير، ما كان يُفترض به أن يكون إرثاً ثقافياً مشتركاً يجمع بين شعوب المنطقة صار ساحة للتنازع الرسمي والشعبي على غرار ما حدث مع لباس "القفطان" المسجّل على لائحة اليونيسكو قبل أيام.

وحدة الإرث
من الناحية التاريخية، يُجمع المؤرّخون على الوحدة الثقافية للمجال الجغرافي المغاربي الذي تأثر بنفس الحضارات والثقافات بداية من العنصر الأمازيغي مروراً بالفتوح العربية فالهجرة الأندلسية ثم الحضور العثماني وصولاً إلى الاستعمار الذي نجح في وضع حدود لكنها لم تعترف يوماً بتداخل العادات. 

ولكلّ هذه العوامل لا يبدو التشابه في اللباس أو الأكل أو الطقوس مصادفةً، بل نتيجة طبيعية لتاريخ عابر للجغرافيا وفق ما يؤكده المؤرخ التونسي عبد الستار عمامو الذي يقول لـ"النهار" إن هذه الشعوب تمتلك ذات التقاليد في اللباس والطعام والحليّ والمعمار مع اختلافات بسيطة، وهو "ما يعطي خصوصية لكلّ بلد" وفق رأيه. ويوضح " أنّ المنطقة مرّت بها ذات الحضارات والثقافات ومن الطبيعي أن تترك جميعها بصمة واحدة ومتشابهة إلى حدّ كبير".

القفطان النسائي.

ويضيف عمامو أنّ "التلاقح الحضاري والتاريخي الطويل في المنطقة أنتج تشابهاً كبيراً في الملبس والمطبخ، والعادات وحتى الموسيقى واللهجات رغم الحدود الجغرافية التي فرضها الاستعمار في وقت لاحق".

من العالم الافتراضي إلى الفضاء الرسمي
لكن هذا التشابه المفترض به أن يكون عنصراً موحداً لشعوب المنطقة تحوّل في السنوات الأخيرة إلى مادة للتنازع الرسمي والشعبي.

ويكفي القيام بجولة على مواقع التواصل الاجتماعي كلما نشرت صورة للباس تقليدي أو طبق شعبي أو حتى أغنية تراثية حتى يتحول الفضاء الافتراضي إلى ساحة للتنازع بين شعوب المنطقة حيث يدعي كلٌّ أن ذلك العنصر ملك له ولأسلافه.

ولسنوات طويلة، ظلّ الجدل حول أسئلة من قبيل "من يملك ماذا" ومن هو الأقدم أو الأعرق؟ ومن هو الأصلي؟ ولمن ينسب كذا؟ محصوراً في نقاشات على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي ساخرة أحياناً حادة أحياناً أخرى، لكنه سرعان ما تسلّل من العالم الافتراضي إلى الفضاءات الرسمية وتطوّر إلى صراع بين الشعوب تحت غطاء "الحق في ملكية الرموز الثقافية والدفاع عن الهوية".

طبق الكسكسي.

وفيما استطاعت دول المنطقة على سبيل المثال تجاوز خلافاتها وتسجيل طبق الكسكس كتراث لامادي عالمي على قائمة اليونيسكو بوصفه الأكلة الشعبية الأشهر التي تسجل حضورها في كل الموائد المغاربية فيما اعتبره المؤرخون حينها "انتصاراً رمزياً كبيراً لفكرة "الإرث الثقافي المشترك"، كان لباس القفطان على سبيل المثال واحداً من العناصر التي شهدت سجالات طويلة بين المغرب والجزائر في أروقة اليونيسكو حيث خاض البلدان نزاعاً حاداً حول أحقيته انتهى بتسجيله قبل أيام كتراث مغربي.

وسبق أن أحدث قميص المنتخب الجزائري الذي نُقشت عليه صورة الجليز في كأس العالم جدلاً كبيراً حيث وصف المغرب ذلك بالسطو على تراثه لأنه وفق رأيه "عنصر يُميّز العمارة المغربية".

نزاع مغلوط
لكن عمامو يرى أنّ هذا النزاع هو نزاع مغلوط لأنه وفق قوله لا يحقّ لأيّ بلد من المنطقة ادّعاء ملكية هذا الإرث الثقافي المشترك أو حتى احتكاره والسطو عليه لنفسه، ويقول إنّ "الثقافة بطبيعتها، تراكم إنساني مفتوح قبل كل شيء"، والمهم في تقديره" تثمينها وحفظها".

ويشدّد المتحدث على أنّ التنازع قد يحرم المنطقة من تسجيل المزيد من العناصر على قائمة التراث اللامادي العالمي فيما تقديم ملفات مشتركة يمنحها حظوظاً أوفر لنيل تصنيف اليونيسكو.

طبق الطاجين.

ويرجع المؤرخ التونسي توسّع الجدال حول الإرث الثقافي في منطقة المغرب في السنوات الأخيرة إلى تأثير مواقع التواصل الاجتماعي، لافتاً إلى أنّ الفضاء الافتراضي أسهم في تأجيج الصراع وذكّى الخلافات التي يحدث أن تنطلق من مجرد منشور في هذا البلد أو ذاك يتحول شيئاً فشيئاً إلى حملة قد تطال شظاياها المجال الرسمي لتشعل أزمة بين الدول على غرار ما حدث مع القفطان والجليز.

ويظلّ التحدّي الأبرز في كلّ هذه السجالات هو كيفية حماية الذاكرة الثقافية الجماعية للمنطقة عوض التعامل مع الإرث المشترك كغنيمة يتنازعها الورثاء.