"أرض الحليب والعسل" لباربرا مسعد: تقاليد الريف اللبناني في مواجهة النسيان

ثقافة 09-12-2025 | 15:13

"أرض الحليب والعسل" لباربرا مسعد: تقاليد الريف اللبناني في مواجهة النسيان

إنّه كتاب يلتقط ما نخشى فقدانه، ويمنح ما تبقّى من الريف اللبناني مقامه الحقيقي.
"أرض الحليب والعسل" لباربرا مسعد: تقاليد الريف اللبناني في مواجهة النسيان
كتاب "لبنان: كتاب الألبان من أرض الحليب والعسل" لباربرا مسعد.
Smaller Bigger

في كتابها الجديد "لبنان: كتاب الألبان من أرض الحليب والعسل" (Lubnan: The Dairy Book from the Land of Milk and Honey)، تعود المصوّرة والباحثة والأنثروبولوجية الغذائية باربرا عبديني مسعد إلى لبنان الذي لا يزال يتنفّس هواء جباله، ومطابخ قراه، وطقوسه الهادئة في إعداد قوته اليومي.

رغم أنّ الكتاب يقدّم نفسه كعملٍ طبخي، فإنّ صفحاته تتجاوز حدود الوصفات لتشكّل لوحة واسعة عن وطنٍ صاغت هويّته قرونٌ من التجريب المطبخي والتخمير والصبر، وعن أيدٍ ما زالت تحفظ هذه التقاليد وتنقلها جيلاً بعد جيل.

ترجع باربرا بفكرة الكتاب إلى سنواتٍ خلت، وتحديداً إلى عملها الميداني على كتاب "المونة"، حين تنبّهت إلى الدور الجوهري لقطاع الألبان في منظومتنا الغذائية. والعودة إلى هذا الموضوع بعد أعوام تحوّلت إلى ما يشبه حجّاً أعمق، يصبح فيه توثيق الطعام توثيقاً للذاكرة والهويّة، ولتلك الصلة التي تجمع بين الأرض والحيوان والإنسان. وتقول لـ"النهار": "أدركتُ مع الوقت أنّني لا أوثّق وصفات فحسب، بل أرشيفاً حيّاً لعلاقتنا بالأرض والحيوانات والتقاليد".

 

كتاب باربرا عبديني مسعد الجديد.
كتاب باربرا عبديني مسعد الجديد.

 

يحمل ذلك الإحساس بالجذور صداه في عبارة "أرض الحليب والعسل" التي اختارتها عنواناً فرعياً، والتي تكشف عن وطن يقف بهدوء تحت ضجيج الأزمات، "وتستحضر لبنان الذي نسي كثيرون أنه موجود، لبنان الذي باركته الطبيعة بالكرم والوفرة، حتى في أصعب الظروف". لذلك لا يُمكن النظر إلى الكتاب كموسوعة، إنّما تحية إلى ذلك الغنى، وتذكير بأن الريف اللبناني "ما زال يحمل جمالاً أشبه بالقداسة، يغذّينا روحياً تماماً كما يغذّينا جسدياً".

قادتها رحلاتها إلى اكتشافات شكّلت جوهر المشروع. كان من بينها كشفٌ مدهش في أعالي الجبال: "إحدى أكثر اللحظات قوةً وإثارة للدهشة كانت اكتشافي جبن الأمبريز والضرفيّة، وهما من تقاليد الألبان الجبلية النادرة". أما الذين ما زالوا يصنعونها اليوم فقد "أظهروا قدرة استثنائية على الصمود، وإبداعاً لافتاً، وثقة عميقة بالعمليات الطبيعية".

ورغم أنّ عالم الألبان يسير وفق إيقاع الفصول، اختارت باربرا أن تنظّم كتابها وفق تحوّل الحليب نفسه. "بنيتُ الكتاب على حياة الحليب"، تشرح لنا، "من الحليب والقشطة إلى الزبدة واللبن واللبنة والكشك وصولاً إلى الجبنة". إنه انتقال من الطزاجة إلى النضج، ومن الفورية إلى الحفظ، ومن الطبيعة إلى الكيمياء الريفية البديعة. وبين هذه الفصول أدرجت "فسحة تأمّلية" عبر "كتاب إبراهيم" لعمر أبو زين الدين، يقودها ثلاثة رعاة قدامى، لتنقل السرد من التعليم إلى التأمل، من الصنع إلى المعنى.

تبقى المرأة في صلب هذه التحوّلات؛ فهي حفظت سرّ الألبان في الريف اللبناني. تؤكّد باربرا أنّ "نساء لبنان الريفيات هنّ الحارسات الحقيقيات للمعرفة". وفي الكتاب "حرصت أن تكون أصواتهنّ في المركز لا في الهامش". فإيماءاتهن، وحكاياتهن، وحكمتهن المتوارثة، تشكل هندسة الكتاب.

أما التصوير فجزء من هوية العمل. والدها كان مصوّراً، ففهمت باكراً كيف يمكن للصورة أن تحمل ذاكرة وعاطفة. في الكتاب، تلتقط عدستها نور العيون، حركة اليدين وهي تشكّل الجبن، وتضاريس الألبان وألوانها في كل مراحلها. ما لا تستطيع قوله بالكلمة تترك للصورة أن ينطقه ويتنفس.

لكن تقديم ممارسات شفوية وحدسية على شكل كتاب تطلّب توازناً دقيقاً. تشرح أنّ "التحدي كان في إيجاد التوازن؛ الأرقام وحدها لا تحمل روح العملية". لذا كثيراً ما تشرح "ما يجب ملاحظته أكثر من الاكتفاء بالقياسات"، مانحةً الحسّ، والرائحة، والإيقاع مكانها الطبيعي، فهي جوهر الصناعة المتوارثة.

 

باربرا عبديني مسعد.
باربرا عبديني مسعد.

 

يأتي الكتاب أيضاً في لحظة يمر فيها القطاع الزراعي بأزمات خانقة، فتغدو صفحاته عملاً هادئاً في الدفاع عن الإنتاج المحلي. "في اقتصاد غذائي معولم، يُهمّش الإنتاج المحلي"، تقول باربرا، لكن أجبان لبنان وألبانه ولبنته وكشكه "تحمل أجيالاً من المعرفة والتنوّع البيولوجي الذي لا يمكن استنساخه". ولذلك تأمل أن "يُلهم الكتاب احتراماً ودعماً حقيقياً للمنتجين المحليين"، وأن يعيد القيمة إلى الموسمية والعناية والجهد الإنساني.

وخلال عملها الميداني، استيقظت ذكريات شخصية. تُخبرنا باربرا كيف أنّ رائحة السمنة كانت تعيدها فوراً إلى مطبخ قريتها في طفولتها. اللبنة أعادت إليها فطور العائلة، وسندويش القشقوان البسيطة أعاد إليها فرح الطفولة العفوي. هذه اللحظات أكّدت لها أنّ الألبان اللبنانية "ليست طعاماً فحسب، بل ذاكرة وعاطفة وصلات".

ولأنّ منتجات الألبان أرشيف ثقافي، فما الحكاية التي ترويها؟ تجيب بلا تردّد: "إنّها تروي حكاية صمود وتكيّف ورعاية". هدفها من خلال الكتاب أن "تضع الراعي اللبناني على المنصة وأن تضمن استمرار هذه الممارسات"، وأن تحفظ النكهات والحكمة للأجيال الآتية. لكنها لا تغفل المخاطر، وتؤمن بأنّنا "إن لم نحفظ هذه التقاليد فسنفقد معرفتنا الحميمة بالأرض وإيقاع الحياة الريفية". لكنها تعرف أيضاً ما لن يفقده لبنان: "إبداعنا وحبنا للطعام… ففي أقسى الظروف نواصل أن نطهو ونتقاسم ونحتفي، وهذه الروح ستبقى".

تأمل مسعد أن يقرأ الناس الكتاب كما لو كانوا يعبرون من خلال مناظر طبيعية: ببطء، وبحواس مفتوحة، وبعناية. "آمل أن يعيش القارئ رحلة تتجاوز الوصفات، حيث يفتح الطعم والرائحة والنظر نوافذ على طبيعة لبنان وفصوله وناسه".

هكذا تُقدّم لنا باربرا عبديني مسعد ما يفوق الكتاب؛ تُقدّم فعل حفظ وصون. إنّه كتاب يلتقط ما نخشى فقدانه، ويمنح ما تبقّى من الريف اللبناني مقامه الحقيقي: حيّاً، مضيئاً، ومحمولاً على محبّة لا تنطفئ. وسيُقام حفل إطلاق الكتاب وتوقيع النسخ يوم السبت 13 كانون الأول/ديسمبر، من الساعة الثانية عشرة ظهراً حتى السابعة والنصف مساءً، في مقهى بيت - مار مخايل.

 

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/8/2025 10:41:00 AM
فر الأسد من سوريا إلى روسيا قبل عام عندما سيطرت المعارضة بقيادة الرئيس الحالي الشرع على دمشق
المشرق-العربي 12/8/2025 5:03:00 PM
تُهدّد هذه الخطوة بمزيد من التفكك في اليمن.
النهار تتحقق 12/8/2025 10:43:00 AM
الصورة عتيقة، وألوانها باهتة. وبدا فيها الرئيس السوري المخلوع واقفا الى جانب لونا الشبل بفستان العرس. ماذا في التفاصيل؟ 
النهار تتحقق 12/8/2025 2:57:00 PM
الصورة حميمة، وزُعِم أنّها "مسرّبة من منزل ماهر الأسد"، شقيق الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد. ماذا وجدنا؟