في شفشاون... فنان مغربي يتحدّى التقاليد برسومٍ جريئة على الزليج (فيديو)
إلى جانب الطريق الصاعد إلى تلة المسجد الإسباني المطلّة على مدينة شفشاون المغربية، صنع عبد الرحيم فكري فضاءً صغيراً يمزج فيه بين الفن والجرأة. يجلس قبالة أعماله المصفوفة بعناية، وينقش ببطء على الزليج، محوّلاً القطع الصمّاء إلى لوحات فنية صغيرة؛ بعضها يبهر السيّاح، وبعضها الآخر يثير حفيظة المحافظين من المغاربة والعرب.
يقف فكري في منتصف العقد الخامس من عمره، آتياً من قلب مدينة فاس، عاصمة فن الزليج، المدينة التي يقول لـ"النهار" إنها "أعطته الكثير"، ومنها حمل بذرة مشروعه إلى شفشاون، المدينة التي بات يخاطب منها العالم بفنّه.
كيف طوّر فكري هذه التقنية على الزليج؟ ولماذا يختار تقديم أعمال جريئة في فضاء عمومي محافظ نسبياً؟ في هذه القصة، تقترب "النهار" من عالم الفنان المغربي، محاولةً فهم رهانه الفني، وحدود الاشتباك بين حرية التعبير والذوق السائد.
بداية الفكرة
يتعامل عبد الرحيم مع قطعة الزليج كما لو كانت لوحة قماشية؛ يرسم خطوطه أولاً، ثم، مستعيناً بآلة حادة، يكشط برفق طبقة رقيقة جداً من السطح، وبعدها يترك الزليج بلونه الأصلي أو يضيف إليه لوناً آخر. وهكذا تتحوّل القطعة إلى عمل فنّي يحمل جزءاً من شخصيته، على ما يقول.
في البداية كانت الحكاية بسيطة وتقليدية؛ فعبد الرحيم فكري الذي لم يعرف المدرسة في حياته، عمل في الأشغال اليدوية على الزليج كما يفعل الحرفيون منذ قرون. لكن مع الوقت، بدأت الفكرة تنقلب شيئاً فشيئاً إلى أسلوب آخر، أكثر عصرية، "مودرن" كما يسمّيه هو.
هذا التحوّل التقني رافقه تحرّر داخلي؛ الطريقة الجديدة في النقش على الزليج منحت عبد الرحيم إحساساً حقيقياً بـ"التحرر في الأفكار". لم يكن الأمر، كما يوضح، هروباً من فقر أو بحثاً عن شفقة، فحياته "مستورة"، لكنه تعلّم الاعتماد على نفسه منذ كان في السابعة، وهذا ما صاغ شخصيته كما يراها اليوم جالساً وسط أعماله.

إلهام الحرّية
بعض المارّة يلتقطون الصور بإعجاب، فيما يتوقف آخرون عند جرأة بعض الرسوم التي تستلهم الجسد البشري والهيئة النسائية في أوضاع وتعبيرات غير مألوفة في الفضاء العام.
عبد الرحيم لا يقدّم هذه الأعمال بوصفها استفزازاً متعمّداً، بل يراها قبل كلّ شيء تعبيراً فنّياً، مع اعترافه بأن للفن في الشارع معنى مختلفاً؛ فحينما تغادر اللوحة جدران المعارض المغلقة إلى فضاء الطريق العام، تتحوّل إلى خطاب مفتوح مع الناس وتكتسب طبقة جديدة من التأويل. وهو يردّد بثقة: "المغرب يمنح الفنان قدراً من الحرية، ليست كاملة، لكنها كافية لأن أشعر بالفخر والاعتزاز".
من هنا، يتعامل مع مشروعه بوصفه مساراً طويلاً لا يزال في بدايته، مشروعاً "فيه ملايين الأفكار، لا مئات فقط". يعتمد على هذا العمل في رزقه اليومي، ويقول إن الأمور "ماشية" معه ما دام قادراً على أن يظلّ حرّاً في فنّه وقراراته.

أمّا الانتقادات فلا تزعجه. يعتبرها جزءاً طبيعياً من اللعبة: "من حق أيّ شخص التعبير عن رأيه؛ أن يحب أو يرفض ما يرى. المهم، في نظره، أن يبقى النقد محترماً ولا يتحوّل إلى اعتداء شخصي. "نحن أحرار، ولهذا خلقنا الله كذلك"؛ جملة يكرّرها كأنها خلاصة فلسفته في الفنّ والحياة.
على حواف بعض القطع، يلمع شعار صغير أحمر يشبه خليطاً بين رمز أمازيغي وحرفين متداخلين. يشرح عبد الرحيم أن هذا الرمز ليس مجرد زينة؛ إنه توقيعه وهويته في آنٍ واحد. والده ريفي أمازيغي، ووالدته عربية، وفي هذا المزيج يرى جمالاً خاصاً.
الرمز، كما يقول، يعني الحرّية، وهو يستعير روحه من رموز الحرّية، ثمّ يضمّ إليه الحرف الأول من عائلته (فكري) والحرف الأول من اسمه (عبد الرحيم)، ليصبح علامة شخصية تختم كلّ قطعة زليج تخرج من تحت يديه.

المغرب بالنسبة إليه ليس مجرّد بلد، بل "منزل للعالم"، ويعتبر فاس تحديداً - المدينة التي نشأ فيها - بوابته إلى هذا العالم؛ مدينة المهرجانات، والموسيقى الصوفية التي تجمع أدياناً وثقافات مختلفة. من هناك بدأت حكايته، وعلى سفح تلة المسجد الإسباني في شفشاون، تستمرّ كلّ يوم في إبداع قطعة زليج جديدة.
نبض