خليل النعيمي الرحّالة إلى الإنسان قبل المكان

ثقافة 24-11-2025 | 09:45

خليل النعيمي الرحّالة إلى الإنسان قبل المكان

كتاب "أنا مكان" نصّ فريد في أدب الرحلة الحديث، العربي وأبعد منه.
خليل النعيمي الرحّالة إلى الإنسان قبل المكان
كتاب "أنا مكان" لخليل النعيمي (دار دوِّن)
Smaller Bigger

لا أعرف بين الكتاب العرب المحدَثين والمعاصرين من جعل السفرَ مساراً لحياته، والرحلةَ مكان إقامته، وكتابتها فنَّه وهواه وهواءه، مثل الكاتب السوري خليل النعيمي، ابن جيلنا المُعتّق.

عديدُ كتاب دوّنوا نصوصاً بمثابة انطباعاتٍ، ووصفٍ، وتعليق على أسفارهم، لكن لم تَعْدُ جزءاً من مدونتهم التأليفية الكبرى، إلى جانب الرواية والشعر والتفكير، ولا خصّوها بعناية أسلوبية مفردة لتتميّز في كتابهم فنًّا مستقلًّا جديراً باسمهم، ونوعاً أدبياً كما عرفناه في تراثنا وآخرين. ديوانٌ غنيٌّ ومرجعٌ للتاريخ والجغرافيا، وسجلٌّ حافلٌ لحضارات الشعوب وأنماط عيشها يُعدُّ مرآة للماضي حين لا عدسات تصوير ولا أفلام، والمسافات شاسعةٌ، والرحلة اكتشاف عجائب. ابن بطوطة (1304 ـ 1368) علمٌ على نار في هذا المضمار العالم جعل رحلته وكتابها منارةً.

يحفل تاريخ الأدب الغربي بسجل بارز من الكتاب الذين كان السفر ديدنَهم وصورةَ مضيئة لتجربتهم الحياتية والإبداعية، ما أكثرهم، أكتفي بأسماء لا غنى عن ذكرها: لامارتين، رامبو، بليز ساندراس، هنري ميللر، إلياس كانيتي، جورج أورويل، جاك كيرواك، ولوكليزيو، ولا يمكن إغفال نايبول (V.S.Naipaul) المتوّج بجائزة نوبل (2001) والذي درع العالم من إفريقيا إلى أوستراليا، وآسيا، وألّف غالب كتبه على نَسَقٍ سِيَر ذاتي رِحلي عُرف به، وأصبح دالاًّ عليه، يميزه عن كتاب السفر محطة لا غير عندهم، في حين أننا حين نتحدث عن أدب الرحلة نعني الكتاب الذين استخدموها تيمة ومساراً وطريقة عيش ونهجاً وأسلوبَ كتابة.

 

غلاف كتاب خليل النعيمي (دار دوِّن)
غلاف كتاب خليل النعيمي (دار دوِّن)

 

خليل النعيمي واحد من نادرين بين الكتاب العرب المعاصرين الذين ساروا على هذه الخطة، ومنذ أن استهل الأدبَ بنصوصه الروائية المغايرة، وظّف تجربة حياته المتدرجة، بمراحلها المركبة بين ماضيه البدوي في منطقة الجزيرة بسوريا، وفترة الدراسة الطالبية الأولى في دمشق، والثالثة الأخيرة انتقاله إلى باريس لدراسة الطب والعمل متخصصاً بالجراحة بعد ذلك (منها "الرجل الذي يأكل نفسه"، الخُلعاء" و" تفريغ الكائن")، وصاغها سيرةً ذاتيةً روائيةً في آن واحد، وسفرٍ داخلي، وتأمل فكري في ما ينعته بـ"الكائن" جمع بين كينونَةٍ مجرّدة وذات متفرّدة. لينتقل بعدها إلى الكتابة الرِّحلية بانتظام ومثابرة لا تنقطع حياةً وتعبيراً بمكوّنين لقطب واحد، تصبح اختصاصاً، أولًا، بالممارسة والشغف، ويصنع بها مادةً ويصوغ لها أسلوباً، ثانياً، الأهم والخاصية الجوهرية التي تطبع هذا النوع وتعدّ نظريّاً عنوانه الأجناسي الأدبي بها يكون أو لا. يقول جاك مونيي: "إنك إن قطّعت الكاتبَ المسافرَ الرحالةَ إلى اثنين فأنت لن تحصل، من جانب، على مسافر، ومن الجانب الآخر على كاتب، ولكن على نصفَي كاتب - مسافر [رحلة]" وهذا وضع النعيمي الذي ألف في هذا المضمار كتباً عُرف بها (منها "مخيلة الأمكنة"؛ "كتاب الهند"؛ "الطريق إلى قونية") تعيِّنه الكاتب العربي الرحالة الحديث بقوامٍ وعُدّةٍ كاملة بلا منازع. بعمله الأخير: "أنا مكان" (دار دوِّن، 2025) يقدم للنقاد والقراء بصفة جازمة بطاقة تعريف.

 

الكاتب خليل النعيمي. (وسائل التواصل)
الكاتب خليل النعيمي. (وسائل التواصل)

 

يحتوي هذا التأليف بدايةً على أربعين قطعة نثرية تقديماً ووصفاً وتفاعلًا لرحلات قام بها الكاتب في سنوات أخيرة إلى بلدان آسيا الوسطى على امتداد طريق الحرير بين طشقند، سمرقند، بخارى، ثم تايلاند، بانكوك والنيبال، واليابان، ثم البيرو، انطلاقاً من باريس، وبالعودة إليها. الأصحّ قولنا انطلاقاً من خليل النعيمي ذهاباً وإياباً. نحن هنا وفي غالب تدويناته الرحلية، وبخلاف ما يتعيّن به هذا النوع النثري المشتق من جنس السرد والمستعير لعناصره، لا نعثر بالضرورة على محكيٍّ خطّيٍّ للسفر، متدرّج بين البدايات ومحطات السفر والنهايات؛ وعلى وصف دقيق للمشاهدات من بشرٍ وعمرانٍ ومختلفٍ في عين الرائي يعرِّف بالإنسان في المكان.  يكفينا الكاتب عناء البحث عن أوصاف طريقته ورسمها، إذ يُعلِمنا سلفاً بأنه معنيٌّ بـ"جغرافية الأحاسيس"، وكتابته "متعددة الأبعاد" يسميها "الإنسانية المسافرة". وعلينا بعد ذلك أن نقرأ نصوصه بتوجيه من هذه العناوين والمسوّغات، هكذا ننتقل بين الأسماء والآثار بما هي جزئياً وكما يراها المسافر كلِّيّاً يضفي، يُسقط عليها فيضَ مشاعره، ويصفها بتهيؤاته، ليصبح المكان الواحد اثنين، والموصوف يتجلى بوجودين، وعلى صعيدين، وبأداتيْ العين والوجدان، هي تشاهد، وهذا يناجي (سمرقند مدينة مترعة بالتاريخ: تأملات ص 35)؛ "أماكن مدلهمّة، يغمرها ضوءٌ فاترٌ ومثيرٌ مثل بريق عيون مملوءة بالشهوة" (40)؛ "أنتعش عندما أرى الصحراء، وحينما أتنسّم ريحَها تمتلئ رأسي بالأقاويل وتبدأ الهيولى [؟] بالتخلق في نفسي" (42). ثم ما يلبث المسافر أن يعود إلى رُشد سفره يزودنا معلومات متفرقة عن تاريخ المكان والأعلام وطبيعة المجال، بما يسمع من المرشد السياحي والمقروء، سرعان ما يتخلى عنها لم تكن إلا تطريزاً عابراً على نسيج خطاب الذات الأصل "الإحساس العميق بالغربة الوجودية" (54).

يتوحّد خليل النعيمي والمكان، في حلول متبادل، بعبارة الحلاج: "نحن روحان حللنا بدنا" (بدن النص)، يسافر الرحالة عادة في المسافة - المكان، وهو يجعل من نفسه الطريق والعنوان. وإذا جاز نختصر "أطروحته" في أدب الرحلة في العناصر التالية: 

1- الرحلة كتابة" مكان لا أكتبه لا يبقى في نفسي منه شيء" (111).
2- الرحلة مساحةٌ للتأمل، وتفلسفٌ عن الوجود، وتوالد الأفكار والأخيلة وحيرة الكائن (كذا).
3- الرحلة تبدأ شكلًا من وتنتهي إلى، ولكن في خطٍّ تصنعه ذاكرةُ الاسترجاع والاستطراد.
4- الرحلة ليست دائماً ذهاباً إلى الأمام، هي رجوعٌ إلى الماضي ومرابعِه، باستحضار ما فات.
5- في هذه الرحلة تحضر المقارنة لازمةً بين شعوب وثقافات، وتعلّةً لتبيان الفوارق والسخرية.
6- وأخيراً، لا آخراً، كتابةُ الرحلة عند النعيمي نصٌّ شعري ينبض بالأسى والغربة والحنين.

هذه العناصر مجتمعةً ترشّح كتاب "أنا مكان" نصّاً فريداً في أدب الرحلة الحديث، العربي وأبعد منه، يتخلق نصّّا جامعاً بخصائصَ لغويةٍ أسلوبيةٍ تركيبيةٍ سرديةٍ وفكرية لإبداع فريد.

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/10/2025 6:25:00 AM
تحاول الولايات المتحدة تذويب الجليد في العلاقات بين إسرائيل والدول العربية من خلال "الديبلوماسية الاقتصادية"
تحقيقات 12/10/2025 8:10:00 AM
يعتقد من يمارسون ذلك الطقس أن النار تحرق لسان الكاذب...
شمال إفريقيا 12/10/2025 6:38:00 AM
على خلاف أغلب الدول العربية، لم يحدث أي اتصال بين تونس ودمشق، ولم يُبادر أيٌّ من البلدين بالتواصل مع الآخر بشكل مباشر أو غير مباشر.
شمال إفريقيا 12/10/2025 6:44:00 AM
الرغبة الجامحة لدى البابا في زيارة الجزائر قابلتها العديد من التساؤلات حيال الخلفيات التي جعلته يولي هذا الاهتمام ببلد عربي أفريقي لم يذكر غيره بهذا الزخم المعرفي من قبل.