روبرت ردفورد، قوة أميركا الناعمة

ثقافة 17-09-2025 | 17:26

روبرت ردفورد، قوة أميركا الناعمة

كان ردفورد، سواء على الشاشة أو خارجها، تجسيداً للوجه المشرق من أميركا.
روبرت ردفورد، قوة أميركا الناعمة
روبرت ردفورد (1936 -2025).
Smaller Bigger

يحمل اسم روبرت ردفورد، الذي رحل أول من أمس عن 89 عاماً، نغمة خاصة ترنّ في الأذن، كأن في تكرار الحرفين الأولين من اسمه وكنيته وقعاً موسيقياً جذّاباً. وربما لأن كلمة فورد في المخيال الأميركي تستدعي مفاهيم القوة والريادة.

كان ردفورد، سواء على الشاشة أو خارجها، تجسيداً للوجه المشرق من أميركا: القيم التي قامت عليها، النضال من أجل العدالة، الاهتمام بالبيئة، ورفض الانغماس في قشرة الوسامة السطحية التي طالما أغرَت جمهور السينما. لم يكتفِ بأن يكون "الجميل الأشقر"، إنما قدّم أدواراً عبّر من خلالها عن شكوك جيله وقلقه الوجودي وهواجسه، وهذا كله جزء لا يتجزأ من أفلامه التي يناهز عددها السبعين. باختصار: كان ردفورد قوة أميركا الناعمة.

 

مع بول نيومان في “باتش كاسيدي وساندانس كيد“.
مع بول نيومان في “باتش كاسيدي وساندانس كيد“.

 

تألّق نجمه في ستينات القرن الماضي وسبعيناته، بارزاً كبطل كاريزمي يحافظ دوماً على مسحة من التواضع، مثاليّ الرؤية، لكن دون أن تغيب عنه بصيرة الواقع. كان في خصام دائم مع السلطة والمؤسسة، وخصوصاً في الأعمال التي جمعته بالمخرج سيدني بولاك (رحل عام 2008 وكان يكبره سنتين)، حيث جسّد شخصيات تصارع قوى كبرى، من دون أن تفقد إنسانيتها. ولمجرد أن يُدرَج اسم ردفورد في أعلى ملصق فيلم، تستحضر الذاكرة على الفور الدراما السياسية أو الثريللر المسيس، وهو نوع غالباً ما "تورّط" فيه هذا الليبيرالي المناصر للبيئة، الذي وإن كان ميّالاً إلى الجمهوريين في بداياته (زمن جيرالد فورد، الخ)، إلا أنه وقف لاحقاً في صف الديموقراطيين، مسانداً باراك أوباما في حملته الانتخابية.

في سجل هذا النجم، الذي كانت أولى خطواته في عالم السينما عام 1960، نجد عدداً من كلاسيكيات السينما الأميركية التي تعيدنا إلى روح الستينات، مثل "المطاردة" لآرثر بن و"باتش كاسيدي وساندانس كيد" لجورج روي هيل، وهما فيلمان أطلقا ردفورد إلى مصاف النجوم الكبار، وجمعاه بعمالقة تلك المرحلة أمثال مارلون براندو وجاين فوندا وبول نيومان، وغيرهم من رموز الشاشة. في حين رسّخ "ذا ستينغ"، مكانة ردفورد كأحد أبرز نجوم هوليوود، وذلك في ثاني تعاون له مع روي هيل – المخرج الذي طواه النسيان اليوم. في هذا الأخير، قدّم ردفورد دور جوني هوكر، بعد أن أبدع سابقاً في دور اللص ساندانس كيد. الفيلم، الذي يدور في أجواء انتقامية تنقلنا إلى عالم نيويورك السفلي، حصد سبع جوائز "أوسكار"، وأُدرج لاحقاً ضمن محفوظات مكتبة الكونغرس الأميركي تقديراً لأهميته الثقافية والتاريخية والجمالية.

 

مع باربرا سترايسند في ”كما كنّا“.
مع باربرا سترايسند في ”كما كنّا“.

 

السينما الأميركية في السبعينات شهدت فصلاً جديداً: "نيو هوليوود". بين دنيرو الذي كان يعبّر عن التخبّط الأميركي وداستن هوفمان "الأنتي هيرو" الأبدي ودنيز هوبر رمز الثقافة المضادة، برز ردفورد كثائر يحمل مناقبية عالية، ملتزم مبادئه. أفلامه حقّقت إيرادات عالية رغم انها حملت رسائل ولم تكن محض ترفيهية. صحيح انه ظلّ على مسافة من "هوليوود الجديدة"، لكن كانت روحه مشبّعة بالنزعة التمردية التي انطوت عليها موجة السبعينات.

يتجلّى هذا في الفيلم البديع، "جيريميا جونسون“ لسيدني بولاك، حيث يجسّد دور جندي سابق ينسحب من صخب العالم الحديث ليحيا منعزلاً في جبال كولورادو، بعيداً من البشر، في مواجهة الطبيعة القاسية، وتحت رحمة الصقيع. هناك، يخوض صراع البقاء، في واحد من أكثر أفلام السينما الأميركية احتفاء بالطبيعة. الفيلم، الذي عُرض لأول مرة قبل أكثر من نصف قرن، لا يزال يحتفظ بسحره إلى يومنا هذا. إنه نوع فريد من "الوسترن الثلجي"، حيث تصبح الحياة مقاومة أبدية، والموت لمن يرضخ أو يستسلم. مع هذا الفيلم، أعطانا ردفورد درساً وجودياً بليغاً، قبل أن يتحوّل إلى الممثّل المفضّل لدى بولاك. ولم تكن تضحياته قليلة. فقد تخلّى عن أجره من أجل إنجاز هذا العمل الصعب، وتحمّل إرهاقاً نفسياً وجسدياً لا يُقاس، مدفوعاً بإيمانه العميق بما يقدّمه من فنّ.

 

مجسّداً دور غاتسبي العظيم.
مجسّداً دور غاتسبي العظيم.

 

وكيف يُمكن أن ننسى "كما كنّا" لبولاك، الذي جمع ردفورد بـباربرا سترايسند في واحدة من أجمل الثنائيات الرومنطيقية في السينما الأميركية؟ الفيلم يستند إلى علاقة حبّ معقّدة بين كاتي الناشطة الشيوعية، وهوبل الكاتب الوسيم واللامبالي، في قصّة تتقاطع مع أجواء الحرب العالمية، ثم تصطدم بظلال المكارثية التي خيمت على هوليوود. كانت تلك العلاقة، بما تحمله من تباين طبقي وإيديولوجي، انعكاساً لأسئلة جيله: الحبّ، الالتزام، الحرية…

في "أيام كوندور الثلاثة"، عاد ردفورد مجدّداً إلى التعاون مع بولاك، ووقف أمام فاي داناواي في فيلم سياسي تشويقي، يؤدّي فيه دور محلّل في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، ينجو بأعجوبة من مذبحة تطيح زملاءه، بعد كشفه لمؤامرة. يتحوّل الفيلم إلى مطاردة محتدمة، تنتهي بنشر الحقيقة عبر الصحافة.

 

مع داستن هوفمان في ”كلّ رجال الرئيس“.
مع داستن هوفمان في ”كلّ رجال الرئيس“.

 

"كلّ رجال الرئيس" لآلن ج. باكولا، من أبرز أعماله الملتزمة. انه أحد الصحافيَين (الثاني جسّده داستن هوفمان) اللذين قادا تحقيق فضيحة "ووترغيت" التي أطاحت الرئيس نيكسون، في واحدة من أقوى لحظات تلاقي السينما بالصحافة والسياسة. وثيقة سينمائية حية عن قوة الصحافة واستقلاليتها.

لم يكتفِ بولاك بهذه المحطات مع ردفورد، بل أسند إليه مراراً أدواراً تعكس التمرد والتمسّك بالقيم والشكّ بالمؤسسات وحسّ المسؤوولية. في "الفارس الكهربائي"، سيؤدّي دور نجم سابق في سباقات الخيل، يفضح الفساد الذي ينخر المؤسّسات والشركات الراعية، في فيلم يخلط بين الرومنطيقية والهجاء السياسي.

 

ردفورد المخرج أثناء تصوير ”أناس عاديون“.
ردفورد المخرج أثناء تصوير ”أناس عاديون“.

 

هذا التعاون المتين مع بولاك سيتكرر سبع مرات، ويبلغ إحدى ذراه في "خارج أفريقيا"، الذي جمعه بـميريل ستريب في دراما شاعرية تجري أحداثها في كينيا الاستعمارية، على خلفية قصّة حبّ غير متوقّعة، وصراعات داخلية وخارجية، بين الطبيعة والبشر، بين العاطفة والواجب. الفيلم حصد سبع جوائز "أوسكار"، وأثبت مرة أخرى قدرة ردفورد على تجسيد الأدوار المركبة بشاعرية مدهشة. أما محطّة الختام في هذا المسار مع بولاك، فكانت مع "هافانا" (1990)، فيلم ذي نكهة نوستالجية عن كوبا خلال الثورة، حيث تشتبك السياسة بالعاطفة في مزيج صاخب من الألوان والمواقف.

كلّ بطل من أبطال بولاك يتّبع المسار نفسه تقريباً: يبدأ عازباً، وسيماً، مكتفياً بذاته. ثم يلتقي امرأة ذات مثالية ذائدة، وغالباً ما تكون ميريل ستريب أو جاين فوندا أو باربرا سترايسند، يقع في غرامها، فتبدأ بينهما رحلة مشتركة تتخطّى الأزمات، سواء كانت رهائن أو محامين فاسدين أو استعماراً في أفريقيا. ومع نهاية الفيلم، يصبح الرجل شخصاً "أفضل"، لا فقط من نفسه السابقة، إنما من شريكته التي ساعدته في اكتشاف ذاته. وقد لخّص بولاك هذا النمط بالقول: "عادةً، إنه الشخص نفسه في أماكن مختلفة. أحياناً في أفريقيا، أحياناً في الغرب... وهذا الشخص هو غالباً روبرت ردفورد". 

 

في ”عرض غير محترم“ مع ديمي مور.
في ”عرض غير محترم“ مع ديمي مور.

 

في التسعينات، وبعدما اكتسح الشاشة أبطال جدد بعضلات مفتولة، عاد ردفورد ليحجز مكاناً في شبّاك التذاكر من خلال فيلمين حققا نجاحاً جماهيرياً لافتاً، وإن لم يكونا من قمم تجربته الفنية: "عرض غير لائق" لأدريان لاين و"قريب وشخصي" لجون أفنت. هاتان التجربتان، وإن لم تُرضيا النقّاد كثيراً، إلا أنهما عكستا بوضوح تحوّلات جيل كامل من الممثّلين الذين بدأ نجمهم بالأفول، بين مَن اعتزل، ومَن مات، ومَن دُفع إلى الهامش. 

لم يرضَ ردفورد بأن يكون مجرد وجه جميل أو نجم سابق. فقد ترك بصمة لا تقلّ أهمية خلف الكاميرا، كمخرج. أسّس مهرجان ساندانس (ولاية يوتا)، الذي تحوّل إلى المنصّة الأبرز للسينما المستقلّة في أميركا، وداعماً حقيقياً للسينمائيين من خارج المنظومة التجارية لهوليوود. أما في الإخراج، فكانت له تجربة تستحق التقدير، وإن لم ترقَ في استمراريتها وحجمها إلى تجربة كلينت إيستوود، لكنها حملت في طيّاتها حساسية فنية واهتماماً عميقاً بالإنسان.

 

”هامس الخيول“ لردفورد تمثيلاً وإخراجاً.
”هامس الخيول“ لردفورد تمثيلاً وإخراجاً.

 

منذ باكورته "أناس عاديون" (1980)، إخراج ردفورد، الذي تناول انهيار عائلة بورجوازية تحت وطأة الحزن بعد وفاة الابن الأكبر، أثبت الممثّل أنه صاحب مشروع. فاز الفيلم بـ"أوسكار" أفضل مخرج وأفضل فيلم، ونال إشادة نقدية واسعة شجّعته على مواصلة هذا الطريق. رغم تفاوت نجاحاته الإخراجية لاحقاً، برز بعض أعماله بجمالياته ورهافته، مثل: "النهر يجري من خلاله"، الذي أطلق براد بيت إلى النجومية، و"هامس الخيول"، مع كريستين سكوت توماس، فيلم رقيق يتناول الألم والشفاء والعلاقة المعقّدة بين الإنسان والطبيعة. بإجمالي تسعة أفلام من توقيعه كمخرج، استطاع ردفورد أن يبرهن أن المضمون عنده لا يقلّ أهمية عن الشكل، وأن الفنّ في نظره ليس مجرد نجومية وامتيازات، بقدر ما هو فعل ثقافي، موقف من العالم وتفاعل حيّ مع العصر.

 

يوم فاز بـ“أوسكار“ أفضل مخرج عن ”أناس عاديون“.
يوم فاز بـ“أوسكار“ أفضل مخرج عن ”أناس عاديون“.

 

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/8/2025 10:41:00 AM
فر الأسد من سوريا إلى روسيا قبل عام عندما سيطرت المعارضة بقيادة الرئيس الحالي الشرع على دمشق
المشرق-العربي 12/8/2025 5:03:00 PM
تُهدّد هذه الخطوة بمزيد من التفكك في اليمن.
النهار تتحقق 12/8/2025 10:43:00 AM
الصورة عتيقة، وألوانها باهتة. وبدا فيها الرئيس السوري المخلوع واقفا الى جانب لونا الشبل بفستان العرس. ماذا في التفاصيل؟ 
النهار تتحقق 12/8/2025 2:57:00 PM
الصورة حميمة، وزُعِم أنّها "مسرّبة من منزل ماهر الأسد"، شقيق الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد. ماذا وجدنا؟