"حواديت" خالد جلال الشجية والمبهجة
من الحكاية يمكننا أن نبدأ، وهل العالم سوى جملة من المرويات، هكذا يعزز العرض المسرحي الجديد للمخرج المصري خالد جلال من أهمية الحكاية في مسرحيته "حواديت"، في مركز الإبداع الفني في دار الأوبرا المصرية.
يملك خالد جلال حكايته أيضاً مع مركز الإبداع الفني، ويصبح جزءاً من العرض المسرحي حينما يروي بشغف ما دار عبر 23 عاماً من الإبداع الممتد.
يستهل العرض المسرحي بتوظيف تقنية "البرولوغ" الذي يعد بمثابة المقدمة الرئيسية، إذ نقف فيه على التيمة المركزية في المسرحية، والتي لا تنفصل عن عنوانها الدال "حواديت"، فنحن أمام جملة من الحواديت المختلفة، التي ترتحل إلى عوالم، وسياقات متباينة، لم تزل تحمل قواسم مشتركة في ما بينها، بحيث تبرز تيمات من قبيل الفقد، الاغتراب، الوحشة، الشره، القهر، وغيرها.

هكذا يبدأ العرض: "نحن الذين خرجنا من كتب الحكايات، ومن قصص الناس، نحن الذين خرجنا من عقول الشعراء، والأدباء، وخيال الناس، نحن من نشعل الخيال، ونحذر الظالم، وننصر البريء. نحن من يحولنا المبدعون إلى أعمال بديعة تحيا في القلوب والأرواح"، لتبدأ بعدها شهرزاد بمرويتها التاريخية، التي لا تلبث أن تغادر التاريخ، لتصبح في متن الواقع، وفي قلب الآن وهنا، حيث اللغة الدرامية القادرة على الاشتباك مع الراهن، وتأمله، ومساءلته على نحو فني ممتع، بلا صراخ أو زعيق أيديولوجي: "أنا شهرزاد، منحت شهريار ألف حكاية وأنقذت روحي بالحكاية... جئت من عالم لا يموت... ما دامت هناك عيون ترى وقلوب تصدق".
تخلق كل "حدّوتة" منطقها الدرامي الخاص، وعناصر الفرجة الخاصة بها، وترتحل "الحواديت" إلى جغرافيا درامية متسعة، تمتد من الشوارع، والبيوت، إلى الداخل الثري للشخصيات ذاتها، وترتحل أولى الحكايات إلى قرية شطورة في جنوب مصر، حيث تحكي نادين عن بطلين مقموعين (نعمة وبحر)، يمتزج في حكايتهما الواقع مع الخيال، وتستحضر الحكاية الأسطورة الشعبية من خلال "النداهة" التي "نادت على بحر" عازف الناي في ليل أسطوري.

تنحو الحكاية الثانية صوب وجهة مغايرة، حيث الفنان مراد وجدي، وتلميذته نادين، التي اختارت طريقاً جاهزاً للشهرة، والثراء، في عالم يتسم بسيولة لا نهائية، يبدو فيه الكنز الحقيقي في الرحلة ذاتها. يغني مراد وجدي أغنية أم كلثوم الشهيرة التي لحنها الموسيقار محمد عبدالوهاب، من قصيدة الشاعر نزار قباني "أصبح عندي الآن بندقية": "عشرين عاماً وأنا أبحث عن أرضٍ وعن هوية/ أبحث عن بيتي الذي هناك/ عن وطني المحاط بالأسلاك/ أبحث عن طفولتي/ وعن رفاق حارتي/عن كتبي/ عن صوري/ عن كل ركن دافئٍ/ وكل مزهرية"، في لحظة درامية جادة، مشحونة بالمشاعر الوطنية، والقومية، سرعان ما يتجول المشهد بعدها إلى حالة من البهجة الخالصة عبر أغنية شهيرة من الفولكلور المصري "ولا أروحش الغيط، دي البامية شوكتني"، وتبدو بوصفها بمثابة الترويح الملهوي، لينتقل بعدها العرض المسرحي صوب وجهة جديدة، و"حدوتة" أخرى ضمن نحو خمسة عشر حكاية حوتها المسرحية. فنرى مثلاً أمّاً تبيع ابنتها العروس في مزاد الزفاف الذي ينتهي بالمأساة، أو حكاية المرأة التي أصيبت بالزهايمر، أو الشاب الذي يقرر الانتحار، ومفعول السم يسري في دمه قبل خمس دقائق من خط النهاية، ليجد أن كل الإحباطات التي عاناها قد حلّت، من خمس دقائق فقط، في استعمال "تكنيك" المفاجأة المتوقعة، وقد تغلب الأداء التمثيلي ومتعة الفرجة على خفة الطرح الدرامي، واعتماده على المصادفات القدرية، إذ تصبح الدقائق الخمس هي التيمة المركزية في المشهد الدرامي هنا، ويبدو توظيف الغناء أداة جمالية في تعزيز حيوية الدراما، فنرى هنا مثلاً الأغنية الشهيرة "الحياة حلوة".

ثمة بُعدٌ رمزي في مشهد عروس "الماريونيت"، التي يشدها صاحبها بخيوط قاسية، في دلالة على القهر، وصولاً إلى نهاية الحدوتة الصامتة بجملة ختامية دالة: "سيبني أسأل وأتكلم، وأضحك... أضحك بصوت عالي عالي قوي"، لتعقب المشهد الرامز أغنية أم كلثوم الشهيرة:" أعطني حريتي... أطلق يديّ".
تلوح أيضاً مشاعر الفقد، في مشهد جديد، حيث غياب الأب، الذي يُعدّ تيمة مركزية في أكثر من مشهد درامي، يبرز أيضاً الجد البوسطجي حامل البهجة، ومشهد عامل الدليفري الذي يحط على أسرة فقيرة، يتمنى أفرادها أن يأكلوا البيتزا، ليقتسمها معهم في النهاية المبهجة، وهناك أيضاً حكاية فؤاد الذي يعاني الوحدة، والاغتراب، ومشهد الانفصال بين الزوجين، وفي الخلفية عالم الكورونا الجديد، والحصار الضاغط على البشر، والمفضي إلى تصور جديد أيضاً.
تتواتر "الحواديت" كلّها في لعبة مسرحية أتقن صناعها وصوغها بصرياً، مثلما أجاد ممثلوها التشخيص الدال لها: نادين خالد، صلاح الدالي، طارق الشريف، شيري أشرف، ياسمين عمر، أحمد شرف، ندى خالد، مي عبداللطيف، أحمد أيمن، محمد صلاح، أحمد شاهين، محمد عادل، أحمد هاني، إسراء حامد، فتحي محمود، أحمد الشرقاوي، وغيرهم ممن أثروا بشغف خشبة مسرح لم يزل يضوي بعناصر المتعة، والإبداع الخلاق.
نبض