كيشلوفسكي مستعاداً في بيروت: ألوان الحياة كما يراها شاعر السينما

كيشلوفسكي مستعاداً في بيروت: ألوان الحياة كما يراها شاعر السينما
كشيشتوف كيشلوفسكي (1941 - 1996).
Smaller Bigger

أمضيتُ أسبوعاً في بيروت برفقة كشيشتوف كيشلوفسكي في مناسبة استعادة قدّمته سينما "متروبوليس". ستّة أفلام منحتني وثلّة من المتفرجين، مفاتيح الدخول إلى عوالمه… ويا لها من عوالم! تخاطبك بالضوء والشاعرية، وتخاطبها بأحاسيسك من دفء مقعدك. هو (كيشلوفسكي) هناك، في ظلّ الأبدية، وأنت هنا، على حافة الدهشة. غادرتُ معظم العروض بعينين دامعتين، ومشاعر تمتدّ كسرب من الأسئلة في الروح، ترافقك ساعات بعد انطفاء الشاشة لتتحوّل إلى أسئلة. كانت الأفلام الستّة (آخر ما أنجزه قبل رحيله في العام 1996 وهو في عز عطائه)، فرصة نادرة لمعاينة العمل ككلّ، كأثرٍ فني يُبنى طبقة فوق طبقة، ويتشكّل من تقاطعات الشكّ واليقين، من حيرة الإنسان تجاه الله، ومن لحظات كثيرة من القلق والبحث المضني في الشرط البشري الذي يحكمنا.

على الشاشة الكبيرة، وسط سطوة الصور وإيقاعها الجهنمي، ندرك فجأةً أننا أمام سينما تُسقط الحواجز؛ سينما آتية من زمن آخر، ومن بلاد لا تشبه بلادنا، ولكنّها تعرفنا. توحّدنا بها الموسيقى الحاضرة كصوت داخلي ويقظة وإصرار، ويجمعنا بها الإنسان — هذا الكائن المتشابه دوماً والمختلف أبداً — الذي يظلّ في صميم رؤيته، مهما ابتعدت الجغرافيا وتبدّلت الأزمنة.

قدّم كيشلوفسكي نحو 50 فيلماً وثائقياً جعلت من عملية التقاط الواقع هاجسه، وشكّلت مرآة دقيقة للحياة في بولندا خلال ستينات وسبعينات القرن العشرين. وفي نهاية الثمانينات، جاء بمشروعه الطموح "الوصايا العشر"، سلسلة أفلام قصيرة تستعرض التعقيدات الأخلاقية التي تعصف بالإنسان المعاصر. مع "حياة فيرونيك المزدوجة" (1991)، أول عمل له في فرنسا التي اعتبرها وطنه الثاني، تخطّى حدود بلده، منطلقاً منه نحو مشروعه الأكبر: ثلاثية "الألوان" – "أزرق، أبيض، أحمر" – التي تُوّج بها كأحد أعظم شعراء الشاشة، شاعر مهتم بمصير الإنسان بقدر ما هو مشغول بمصير كوب في مواجهة الرياح أو بقطعة سكّر تمتص القهوة. 

 

إيرين جاكوب في “حياة فيرونيك المزدوجة“.
إيرين جاكوب في “حياة فيرونيك المزدوجة“.

 

مع "أزرق"، بلغ كيشلوفسكي ذروة فنية متكاملة من حيث النص والصورة والأداء والإخراج، وخصوصاً استخدام الموسيقى التي وضعها النابغة زبيغنييف برايزنر. الفيلم هو الجزء الأول من ثلاثيته الرمزية، المستوحاة من القيم الثلاث للثورة الفرنسية: حرية، مساواة، إخاء. طرحها بأسلوب فلسفي بصري روحاني لا مثيل له. هل يمكن المرء أن يولد من جديد بعد انكسار؟ كيف نعيد بناء ذواتنا حين تنهار أعمدة الحياة من حولنا؟ هذه الأسئلة تُطرح بإلحاح داخلي في كلّ مشهد من الفيلم الذي يحكي قصّة جولي (جولييت بينوش)، التي تفقد زوجها وابنتها في حادث سير مروّع. من لحظة الفاجعة، ستنطلق رحلتها نحو التحرر من عبء الماضي، ومن ظلال الحبّ والموسيقى التي خلّفها زوجها. لكن هذا التحرر لا يأتي بلا ثمن، بل يكشف عن جراح عميقة تطفو على السطح. ما يجعل الفيلم عملاً فنياً لا يُضاهى في جمالياته، هو اللون الأزرق الذي يملأ الشاشة ببرودته الثقيلة، ويتحوّل إلى كائن حيّ يعكس ألم البطلة الداخلي. أما الموسيقى، فهي ليست مجرد خلفية، إنما لغة موازية، تعيد تنشيط الذاكرة وتنفض عنها الغبار، بينما يترك كيشلوفسكي مساحة للصمت، كي ينقل أوجاع البطلة، تلك التي لا تقوى على النطق بها. "أزرق" تجربة شعورية كاملة ترصد المعاناة البشرية في أقصى درجاتها، وتُظهر كيف أن الألم، رغم محاولاتنا المستميتة للهروب منه، يظل حاضراً في كلّ زاوية، متجذراً فينا، لا مفر منه.

في "قصّة قصيرة عن الحبّ" (1988)، يتداخل الهوس بالرغبة، من خلال حكاية شاب منطوٍ (أولاف لوبازينكو) يقع في غرام امرأة ناضجة (غرازينا زابووفسكا) تسكن في الشقّة المقابلة. تدور الأحداث في بيئة خانقة، حيث تعكس الأبنية الإسمنتية العالية شعوراً بالعزلة والانفصال. يتجسّس الشاب على لحظاتها الخاصة من نافذته، خالقاً لنفسه طقوساً يومية تقرّبه منها كإيصال الحليب أو الاتصال بها فقط للاستماع إلى صوتها. في لحظة انكشاف، يقرر الشاب أن يبوح بمشاعره، لكن مواجهته معها تضعه في موضع ضعف، حيث تنهار المسافة التي كانت تحميه وتمنحه وهم السيطرة. الحبّ، بالنسبة له، لم يكن سوى تجربة من وراء الزجاج، آمنة ومثالية. أما عند المواجهة، فتتبدّد تلك الصورة، فيبدو تائهاً، غير قادر على الفعل أو التعبير. في المقابل، تجسّد المرأة وجهاً آخر للحبّ: النضج، الخبرة والقدرة على التفريق بين ما هو شعور حقيقي وما هو مجرد خيال. بشاعرية تحلّق عالياً، يحلل كيشلوفسكي خيوط الرغبة والتوق والحرمان من دون إطلاق أحكام أو تقديم تفسيرات جاهزة. تتقاطع الحميمية مع الاغتراب، والفضول مع الضعف الإنساني، من خلال تساؤلات وجودية عن ماهية الحبّ وحدوده، عن التلصص والرغبة والإفصاح. المشهد الأخير هو أحد أجمل الخواتيم في تاريخ السينما: لحظة العبور إلى الضفّة المقابلة لنرى بعيني الآخر. خاتمة مدهشة مشبّعة دائماً وأبداً بموسيقى برايزنر التي تفصح عما تحجبه العين.

 

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/10/2025 6:25:00 AM
تحاول الولايات المتحدة تذويب الجليد في العلاقات بين إسرائيل والدول العربية من خلال "الديبلوماسية الاقتصادية"
المشرق-العربي 12/11/2025 6:15:00 AM
قذائف المزّة والعمليتان اللتان لم يفصل بينهما شهر تحمل رسائل تحذيرية إلى الشرع وحكومته، والرسالة الأبرز مفادها أن القصر الرئاسي تحت مرمى الصواريخ.
المشرق-العربي 12/11/2025 2:25:00 AM
إنّها المرة الأولى التي تتهم المنظمة "حماس" وفصائل أخرى بارتكاب جرائم ضد الانسانية.
المشرق-العربي 12/11/2025 2:10:00 PM
شدد على ضرورة منح المحافظة حكماً ذاتياً داخلياً أو نوعاً من الإدارة الذاتية ضمن سوريا كوسيلة لحماية الأقليات وحقوقها.