بين حضور الشاشة ودفء اللقاء
فرانسيسكا موسى
كان زمنٌ يمرّ فيه حمامٌ زاجل يحمل رسائل حبّ مكتوبة بخطٍّ مرتجف، ينتظرها العاشق أيامًا ليقرأ جملة واحدة تُضيء قلبه. كانت الورقة تحمل رائحة اليد التي كتبتها، ودفء الشعور الذي أُفرغ عليها، كأنّ بين السطور نبضًا يطير لا مجرّد كلمات. اليوم، استبدلت الحمامة بالشاشة، وأصبح الحبّ يصل في ثانية… لكنّه في كثير من الأحيان يصل أضيق، أبرد، وأكثر هشاشة من ورقة كانت تسافر نصف عمرها.

لم يعُد الإنسان اليوم ينتظر رسالة طويلة ليقول ما يشعر به أو ليطمئنّ على من يحبّ. فقد قلبت التكنولوجيا موازين التواصل، وجعلت المسافة بين قلبٍ وآخر لا تتجاوز ثانية تُضاء فيها شاشة صغيرة. صار الغائب حاضرًا بصوته وصورته، وصارت اللقاءات الافتراضية جسرًا يعبر فوق الغربة والبعد. لكنّ السؤال الأعمق يبقى معلّقًا: هل يكفي نور الشاشة ليملأ مكان ظلّ الإنسان؟ الحقيقة أنّ التكنولوجيا، مهما بلغت قوتها، تبقى ظِلًا للحضور الإنساني لا صورته الكاملة. فالأم التي ترى ابنها المغترب عبر مكالمة مرئية تطمئن حين تسمع ضحكته، لكنّ قلبها يبقى معلّقًا بلمسة يده ورائحة حضنه وطمأنينة وجوده الحقيقي. والصديقان اللذان يستعيدان ذكريات الماضي عبر الصور والمحادثات يشعران أنّ شيئًا ما ما زال ناقصًا… ذاك الدفء الذي لا يُصنع إلا حين يلتقيان في جلسة تفيض بالضحك الحقيقي ونبض اللحظة. فاللقاء الواقعي ليس مجرد حديث؛ هو لغة الجسد، ارتجافة الصوت، نظرة العين، وحتى الصمت الذي يقول ما لا تقوله الكلمات. أما التواصل الافتراضي، مهما تنوّع، فتبقى رسائله باردة، وصوره ثابتة، ومشاعره محصورة داخل شاشة لا تنقل حرارة الروح. لذلك، قد يترك تراكم الرسائل في القلب فراغًا، لأن الإنسان بطبيعته لا يحتاج إلى صورة الآخر… بل إلى حضوره. مع ذلك، لا يمكن إنكار الوجه المضيء للتكنولوجيا. فهي خفّفت قسوة الغياب، وفتحت نوافذ جديدة على العالم، وجعلت التواصل أسرع وأقرب. لكنها تصبح خطرة حين تتحوّل من وسيلة إلى مقابلٍ للواقع، فيكتفي البعض بعلاقات افتراضية سطحية تفقدهم القدرة على العيش الحقيقي، على أن يلتقوا، ينظروا، يصغوا ويشعروا.
نعم، يمكن القول إنّ التكنولوجيا تصلح أن تكون جسرًا، لكنها لا تصلح أن تكون وطنًا. فالحضور الإنساني المباشر يبقى الأعمق أثرًا، والأقدر على مداواة الروح، والأكثر صدقًا في بناء علاقة لا تهزّها المسافات. وما بين ضوء الشاشة ودفء اللقاء، يبقى الحلّ في التوازن: أن نستخدم التكنولوجيا دون أن نستبدل بها الإنسان.
نبض