من يعرّف العدو؟ قراءة دستورية وقانونية في الردّ على مقالة شبيب
د. علي محمود الموسوي
يقدّم القاضي زياد شبيب في مقاله «العدو» طرحاً مفاده أنّ لبنان ليس في مواجهة قانونية مع إسرائيل، لأن الدستور لم يسمّ «عدواً»، ولأن غياب إعلان الحرب يبقي توصيف إسرائيل ضمن خانة العبارات السياسية لا المفاهيم القانونية. غير أنّ هذا الطرح يغفل المسار الدستوري والرسمي الذي حكم تطوّر موقف الدولة اللبنانية من إسرائيل، كما يتجاهل الوقائع الكبرى التي أسقطت عملياً اتفاق الهدنة، ورسّخت توصيف الاحتلال وما يترتّب عليه من تحديد للعدو.
1. الهدنة التي سقطت بالاحتلال
يستند شبيب إلى اتفاقية الهدنة لعام 1949 كإطار ناظم للعلاقة بين لبنان وإسرائيل، ويعتبر أنّ غياب إعلان الحرب يبقي العلاقة في حياد قانوني. لكنّ العودة إلى الوقائع تُظهر أنّ إسرائيل خرقت الهدنة مراراً، بدءاً من اجتياح 1978، ثم اجتياح 1982، وصولاً إلى احتلال الجنوب طوال 22 عاماً. في القانون الدولي، الهدنة ليست وثيقة مجرّدة؛ بل هي التزام بوقف الاعتداء. وعندما يحتلّ طرف ثلث أراضي الطرف الآخر، فإنّ الهدنة تُنسف حكماً. هذا ما عبّرت عنه الدولة اللبنانية نفسها في وثائق رسمية عام 1980 عندما وصفت الجنوب بأنّه «تحت الاحتلال الإسرائيلي» واعتبرت أنّ مهمتها هي «مقاومة الاحتلال وإزالة آثاره».
الاحتلال ليس حالة قانونية محايدة، بل هو إنهاء فعلي للهدنة، وهو إعلان حالة عداء بوسائل القوة والسلاح، لا عبر البيانات.

2. غياب إعلان الحرب لا يلغي وجود العدو
يُحاجج شبيب بأنّ لبنان لم يعلن الحرب على إسرائيل، وبالتالي لا يمكن اعتبارها «عدواً» بالمعنى القانوني. لكنّ إعلان الحرب نفسه أصبح، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، آلية شبه منقرضة. فالحروب الحديثة تخاض من دون أي إعلان رسمي، والمعيار الحقيقي هو وجود عدوان أو احتلال. وبما أنّ إسرائيل مارست عدواناً واحتلالاً ثابتاً، فإنّ العلاقة بحكم القانون الدولي علاقة عداء، حتى لو لم يصدر أي إعلان شكلي.
دافع لبنان عن نفسه عام 1948 من دون إعلان، ودافع عامَي 1978 و1982 من دون إعلان، تماماً كما تتيح المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تُقرّ بحق الدول والشعوب في مقاومة الاحتلال. هذه المادة تُعدّ نصاً دستورياً ملزماً بفعل مقدمة الدستور اللبناني. العداوة هنا ليست خياراً سياسياً، بل نتيجة لعدوان مسلّح مستمر.
3. الدولة اللبنانية هي من سمّت إسرائيل «احتلالاً»
ما يقدّمه شبيب كـ«خطاب عقائدي» ليس سوى توصيف رسمي صادر عن مؤسسات الدولة. فمجلس الوزراء، في قرارات متعددة خصوصاً عام 1980، اعتبر إسرائيل قوة احتلال، وأدرج مقاومة هذا الاحتلال ضمن مهام الدولة استناداً إلى قانون الدفاع الوطني. وعندما تُسمّي الدولة وجوداً عسكرياً أجنبياً على أراضيها «احتلالاً»، فهي تحدّد العدو ضمناً وبصراحة، لأن الاحتلال لا يمارسه إلا العدو.
3. وثيقة الوفاق الوطني: القيمة الدستورية المغيّبة
يتجاهل شبيب الإطار الدستوري الجديد الذي ثبّته اتفاق الطائف. فالوثيقة، وفق اجتهاد المجلس الدستوري (2002)، تحمل قيمة دستورية ملزمة. وقد خصّصت بنداً بعنوان واضح: «تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي». كما أثنت اللجنة العربية الراعية للطائف على «المقاومة البطولية التي يقوم بها الشعب اللبناني ضد الاحتلال الإسرائيلي». هذا التوصيف لم يكن رأياً سياسياً، بل جزءاً من الأساس الدستوري للنظام اللبناني بعد عام 1990. وبالتالي، فإنّ إدراج إسرائيل كقوة احتلال هو توصيف ذو مرتبة دستورية، لا خطاب ظرفي.
5. المقاومة بين الدولة والقانون الدولي
يُقدّم شبيب المقاومة وكأنّها ظاهرة خارجة عن الشرعية. لكنّ الوثائق الرسمية تظهر العكس تماماً: فقد أُدرجت المقاومة ضمن السياسة الدفاعية عام 1980، ووُصفت بالبطولية في وثيقة الطائف، وغدا «حماية التحرير» بعد عام 1990 جزءاً من فلسفة النظام السياسي. كما اعترفت الأمم المتحدة عام 2000 بتنفيذ إسرائيل للقرار 425 إثر الانسحاب تحت ضغط المقاومة. كل ذلك يبيّن أنّ مفهوم المقاومة ليس لغوياً، بل مرتبط بواقع الاحتلال وبالحق الدولي بالدفاع والمقاومة.
6. الخلاصة: من يملك حق تعريف العدو؟
العدو في القانون ليس مفهوماً إنشائياً. تحدّده ثلاثة عناصر:
1.العدوان الفعلي: الاحتلال، الاجتياحات، الخروق.
2.موقف الدولة الرسمي: قرارات حكومية صريحة منذ 1980.
3.النصوص الدستورية: وثيقة الوفاق الوطني ومقدمة الدستور.
وفق هذه العناصر، تصبح إسرائيل «عدواً» بحكم القانون والدستور والوقائع قبل أن تصبح كذلك بحكم الخطاب. أمّا محاولة نزع صفة العدو عنها، فهي محاولة لفصل القانون عن الواقع، ولإعادة كتابة تاريخ رسمي وثّقته الدولة نفسها.
لبنان لا يبحث عن عدو، بل واجه احتلالاً ثابتاً. والاحتلال يُعرّف نفسه، ولا يحتاج إلى إعلان حرب كي يصبح عداءً قانونياً ودستورياً.
نبض