زيارة البابا ليون الرابع عشر… يوم تنفّست القلوب رجاءً!
عصام عطالله - استاذ جامعي، كاتب، وباحث
لم تكن زيارة قداسة البابا ليون الرابع عشر إلى لبنان حدثًا بروتوكوليًا عابرًا، بل لحظة نادرة أعادت صياغة الوجدان اللبناني. جاء الحبر الأعظم إلى أرض الأرز ضيفًا، لكن أي ضيف؟ زائرٌ يحمل معنى يفوق المقاييس السياسية والدبلوماسية، ويقدّم نموذجًا فريدًا في العالم: قائدٌ روحي لا يسعى إلى نفوذ، ولا يطلب امتيازات، ولا يدخل في مساومات. إنما يأتي ليذكّر الإنسان، أيّ إنسان، بقيمته وحقّه في الكرامة والعيش بسلام.
في عالمٍ تتصاعد فيه الضوضاء السياسية والحسابات الضيّقة، جاءت خطابات البابا لتعيد ترتيب الأولويات. تحدّث عن الإنسان قبل الدولة، وعن الكرامة قبل السلطة، وعن الحوار قبل المصالح. كلماته لم تكن محاضرات دبلوماسية، بل شهادات روحية صادقة، ثابتة، غير انتهازية، منسوجة بخبرة طويلة في خدمة البشر، وفي الإيمان العميق بأن الحوار هو الأساس الوحيد لبناء سلام حقيقي. كان يذكّرنا، ببساطة وعمق، أنّ الحياة المشتركة لا تُفرض بالقوّة، بل تُصنع باللقاء والإصغاء.
ومع ذلك كلّه، فإن السمة الأبرز التي طبعت زيارته كانت تواضعه العميق. تواضعٌ لا يُصطنع، ولا يُقدَّم كصورة إعلامية، بل ينبع من جذور روحية وإنسانية. كان يمشي بين الناس كخادم لأولئك الذين يحتاجون إلى كلمة طمأنينة. ابتسامته الحانية، انحناء رأسه أمام كبار السن، طريقة مصافحته للناس من دون استعجال… كلّها أشارت إلى بساطة نادرة في عالم تعود فيه العظمة إلى الخطاب لا إلى السلوك.

وقد تجلّت إنسانيته في كل محطة من زيارته. ركوعه أمام مار شربل لم يكن مشهدًا عابرًا، بل إعلان تواضع من قائد عالمي أمام قداسة هذا الجبل: قديس لبنان والعالم. احتضانه راهبات أبونا يعقوب كان فعل محبة يختصر تاريخًا طويلًا من خدمة المهمّشين. صلاته عند سيدة لبنان في حريصا بدت وكأنها صرخة روح تهدي البلاد إلى لحظة تأمّل جماعي. لقاؤه بالشباب في بكركي اتّخذ شكل حوار صادق، لا خطاب فوقي. وعندما وقف تحت سماء بيروت، بدا صوته أشبه بجرس روحي… صدح في فضاء المدينة، ودخل إلى قلوب الناس ونفوسهم بانسياب مهيب.
لم تفارق الابتسامة وجهه طوال ثلاثة أيام، وكأنها تقول للبنانيين: «أنتم لستم وحدكم». ثلاثة أيام فقط، لكنها كانت كافية لتذكير هذا الوطن المنهك بأن جذوره أعمق من أزماته، وأن لبنان ليس مجرد مساحة جغرافية، بل رسالةٌ للبشرية. رسالة تُثبت أنّ التنوّع يمكن أن يكون غنى، وأن الألم يمكن أن يتحوّل إلى دعوة للتماسك، وأن لبنان مهما تراكمت عليه الصعوبات، ما زال يحمل القدرة على النهوض.
زيارة البابا ليون الرابع عشر لم تكن زيارة رسمية، بل زيارة راعٍ يشعر بآلام الناس أكثر مما يشعر بثقل البروتوكول. لذلك كانت زيارته مختلفة عن أي زيارة أخرى لأي رئيس أو مسؤول؛ لأنه لم يأتِ ليوقّع اتفاقيات مالية أو سياسية، ولم يطالب بشيء لنفسه أو للفاتيكان. جاء فقط ليعيد ترتيب الحقيقة الأساسية: أن الإنسان يجب أن يعيش بكرامة، وأن المجتمعات لا تُبنى إلا على السلام.
لبنان، في حضرته، بدا وكأنه يستعيد ذاته. استعاد لحظة إيمان بأن هذا الوطن، رغم جراحه، ما زال شيئًا أكبر من أزماته… ما زال قدرة على الغفران، وعلى الأمل، وعلى الحياة.
شكرًا، قداسة البابا ليون الرابع عشر،
لأنكم أيقظتم من جديد شعور الرسالة في وطننا،
وشكرًا لأنكم، ولو لثلاثة أيام، أعطيتم لبنان فرصة ليشعر أنه… ليس مجرد بلد، بل مهمة إنسانية كبرى.
والسلام
نبض