لبنان رفع صليبه وسجد للسماء
ريمي الحويّك
هناك لحظاتٌ لا يمرّ فيها الله على أرضٍ ما، بل ينزل إليها، كنسمةٍ تنزل من السّماء، كملاك واقف على عتبة الفجر، ينفض عن الأرض غبار الخوف ويهمس لها: "لا تخافي… الربّ معكِ".
هكذا كان لبنان يوم جاء البابا إليه. لم يكن رجلاً يصل من دولة إلى دولة، بل سفير السّماء الآتي بظلّ الصّليب، برائحة الإنجيل، وبكلمةٍ قادرة أن تُقيم قلباً أرهقه الزّمن وأسقطته التّجارب. لفّ علم الفاتيكان الأصفر لبنان، حاملاً معه بركةً وسكينةً غسلت جروح الوطن وأعادت إليه أنفاس السّلام.
في اللحظة التي وطأت فيها قدما البابا تراب المطار، لم يكن المشهد استقبالاً بروتوكولياً فقط، بل بدا كأنّ فرجة انفتحت في السماء فوق الوطن الجريح. على مدرج مطار رفيق الحريري الدّولي، اصطفّت القياداتُ أمامه كالابنٍ الضالّ الذي عاد يبحث عن يدٍ تمسح رأسه، وصوتٍ أبوّي يقول له: "كنتَ ضالّاً فوُجدت… كنتَ ميتاً فعشت."

وصل قداسته إلى باحة القصر الجمهوري، كان المطر يهطل كما لو أنّ السّماء تغسل لبنان أمامه لتقدّمه جديداً نقيّاً بين يديه. كان المطر يسكب نفسه كمعموديةٍ جديدة لهذا الوطن ولكرسيّه الرّئاسي الوحيد في المشرق. الكُلّ واقف، لا يتحرّك، لا يهرب من المطر، لا يعاند الرّياح، بل يفتح صدره لها. بدا المشهد كأنّ السماء أزاحت ستارتها عن لبنان المتعب. الشّعب تحت المطر يحمل إيمانه كسيفٍ يشقّ الظّلمة، وقلبه كترسٍ يصدّ الخوف عن أرضٍ طحنَتها الحروب. لم يتراجع تحت العاصفة، بل دقّ الأرض بقدميه كأنه يقول لله: "هذه أرضك، هذا شعبك."
وفي عنايا…
يا لعنايا!
الجبل كلّه بدا كأنه يأخذ نفساً عميقاً استعداداً لصلاة عظيمة. الأجراس حقيقية، تُقرَع بسواعدٍ مؤمنة تهتزّ معها السّماء. والشّمع حقيقي، لا ضوء بارداً يُشعَل بعملةٍ معدنية، بل لهبٌ يولد من صلاةٍ متّقدة. والبخور حقيقي، ينتشر في الأرجاء ويتسلّل إلى الثّياب، عطراً روحيّاً لا تغسله المياه.
عند ضريح مار شربل، شعَر اللبنانيون أنّ الأرض ترتجف من قداسة اللحظة. الصّمت كان كثيفاً، سجد البابا وتنهّد أمام ناسكٍ وهب العالم كلّه صمتاً يشبه الله، كأنّ شربل مدّ يده عبر الزمن ليقول له:
"إسأل السّماء شفاء لبنان."
ففعل.
وعند عبوره مدخل مزار سيّدة لبنان نحو المذبح، تعاقبت الأيادي على ملامسة يده واحتضانها وتقبيلها كما لو أن نعمةً تتنقّل من كفٍّ إلى كفّ، وكما لُمِس ثوب المسيح، كان المشهد أقرب إلى معجزة إحصاؤها مستحيل، لحظةٌ لو دوّنها غينيس، لكتب تحتها: "هنا، الأعداد هُزمت أمام الإيمان".
وفي اللّقاء المسكوني مع القادة الدينيين، لم يتكلّم بلهجة الديبلوماسيين، بل بصوت الحقّ. قال الحقيقة كما هي: "لبنان ليس ساحة حرب ولا ساحة نفوذ، لبنان رسالة، أدفنوا الأحقاد واعبروا نحو السلام".
ومن أجمل محطّات الرّحلة، لقاؤه الشّباب اللّبناني في الصّرح البطريركي. في بكركي، كان المشهد أكبر من زيارة وأعمق من بروتوكول. كان كأنّ قلباً يمشي داخل قلب، وكأنّ الرّوح تتقدّم بين الأرواح بلا خوف. عبر البابا بين الناس كمن يعبر في شرايين لبنان نفسه، واقفاً في عربة مكشوفة، لا يحجبها زجاج ولا دروع.
من يصدّق؟ كيف لرجل يحمل ثِقل العالم على كتفيه أن يترك جسده للهواء، للناس، للابتسامات الممتدّة نحوه كأغصان زيتون؟
كيف تحوّلت المسافة بينه وبين هذا الشعب إلى جسر محبّة وثقة في يومٍ واحد فقط؟
في بكركي، لم يكن البابا وحده من مرّ مكشوفاً، لبنان أيضاً كان مكشوفاً، بصدق إيمانه وطيبة ناسه وقدسيّة ترابه.
نظر البابا إلى وجوه الشباب، إلى جيل يتعثّر بين أبواب مغلقة وأحلام مؤجّلة، جيلٍ يخاف الغد لأن الحاضر أتعبه، وقف أمامهم وخاطبهم بسلطان المحبة: "السلام لكم، لا تخافوا، أنتم رجاء لبنان، أنتم أبناء الله، أنتم صانعو السلام".
وحين دخل البابا مستشفى راهبات الصليب، دخل إلى مدرسة المسيح الحقيقية. لم يكن قائداً عالمياً، بل كاهناً يحمل الألم على مذبح الرّحمة. بارك المرتجفين، الجائعين للشّفاء، المتروكين في صمتهم. هناك، تجلّى لاهوت الرحمة بكل أبعاده، "كلّ من تألّم مع المسيح… سيقوم معه."
وقف البابا في موقع انفجار المرفأ، مشى بخطواتٍ بطيئة، كأنه يخشى أن يوقظ الرماد الذي ما زال ينتحب. هنا، لم يحتج الى الكلام. الصّمت نفسه صار صلاة. وقف حيث سقطت المدينة، وتشتّتت الأرواح، وتشقّق القلب الجّماعي للبنان. وفي تلك اللّحظة، بدا كأنّ المسيح نفسه يقف في هذه الجلجثة الحديثة، يضع يده على الجّرح ويقول كما قال عند قبر لعازر: "ارفعوا الحجر، ارفعوه عن اليأس، عن الخوف، عن الألم، عن الموت ارفعوه".
وختم زيارته بقدّاس جمع آلاف القلوب على واجهة بيروت البحرية، حيث تحوّل الوطن كلّه إلى كنيسة واحدة بلا حدود. من يشاهد هذا المشهد اليوم ولا يعرف تاريخ النزيف اللبناني، لن يفهم سرّ هذا النور الذي يشعّ من أرضٍ خنقتها الدموع. لن يستوعب كيف لبلدٍ حمل جثّة نفسه على كتفيه، وتجوّل طويلًا بين الخراب والعتمة، أن يعود ويتنفّس هكذا، بقوة، بكرامة، بإيمان؟
من لا يعرف لبنان، لن يفهم أن هذا البلد الذي خنَقَه الرماد، كان يتنفّس من رئة السماء.
لن يفهم أن هذا الشّعب الذي انهارت تحته الأرض، كان ينهض بإيمانٍ لا يُرى، ينمو في الظلمة مثل بذرةٍ خبّأها الله بيده في التراب كي لا تموت.
لن يفهم ان لبنان في السّنوات الأخيرة كان يشبه كتاب أيوب، خسر كل شيء ولم يخسر الله، طُعن ألف مرة ولم يفقد صوته وهو يقول "مبارك اسم الرب"، جفّت ينابيع الفرح وظلّ يذهب إلى القداس لكي يشرب من كأس الرجاء.
كيف يشرح لبنان قصّته؟
كيف يقول إنه وطنٌ انقطع عنه الضوء لكن لم ينطفئ النور؟
كيف يصدّق الغريب أن بلداً تهدّمت بيوته، احترقت أحلام شبابه، واهتزّت روحه تحت ثقل الأزمات، يقف اليوم ثابتاً لا يرتجف؟
كيف يفهم أن هذا الجسد الجريح ما زال يرنّم، وما زال يوزّع خبز الرجاء على مذابح الدنيا؟
لكن أهل لبنان يعرفون السرّ، هناك يد تسندهم لا تُرى، هناك ربّ يحرسهم من فوق جروحهم، هناك عهد بين الله وهذه الأرض لم يُكسر رغم كل الانهيارات.
واليوم، في القداس، لم يكن المشهد احتفالاً عابراً، بل مسرحاً روحياً لبلد يعلن قيامته من جديد. كلّ ابتسامة كانت كسراً لقيود الخوف، كل دمعة كانت غَسلاً للجروح، كل يدٍ ارتفعت نحو السماء كانت توقيعاً جديداً على عهدٍ قديم.
بدا لبنان كجبلٍ نُحت من الصلاة، كأرضٍ ممسوحة بزيت النعمة، كقلبٍ صلبته التجارب وأقامته الإرادة.
بدا كأنه ينظر إلى العالم ويقول بصوت مبلّل بالرّجاء "أنا وطنٌ مات ألف مرّة، ونهض ألف مرّة، لأن الله لم يرفع يده عني".
في زيارة البابا، غابت وجوه كثيرة ممّن يمسكون برقبة اللبناني، كأنّهم اختبأوا في حرجهم، مثقلين بمعاثبهم وظلمهم وخطاياهم. وفي الشرفة الأخرى، حضر نور فيروز عبر أغنية "احكي لي" بصوت أطفال من ذوي الإرادة الصلبة في القصر الجمهوري، كما حضر نقاء ماجدة الرومي في ترتيلة "يا غافي" التي أثنى عليها البابا نفسه، فبدت اللحظة كأنّها تذكيرٌ بما في هذا الوطن من جمالٍ لا يشيخ.
كانت كل محطّة في الزيارة إنجيلاً صغيراً، إنجيل الألم في المرفأ، إنجيل الرّحمة في دير الصليب، إنجيل القداسة في عنايا، إنجيل الرّجاء مع الشّباب، إنجيل الحقيقة أمام السّلطة، وإنجيل الوحدة في القداس الكبير.
عنايا، حريصا، المرفأ، دير الصليب، وقلب بيروت…
خمسُ محطّاتٍ لا تشبه الأماكن، بل تشبه جروح المسيح الخمسة على جسد لبنان، عند عتباتها نظر البابا نحو السماء ورفع صلاته: يا ربّ، كما لم تترك ابنك على الصّليب، لا تترك لبنان في جروحه. كما أقمت ابنك في اليوم الثّالث، أقم شعبك من آلامه، وافتح له أبواب القيامة.
غادر البابا ولم تغادر النّعمة معه، فالنّعمة لا تترك أرضاً لامستها السّماء. بقي أثرٌ يشبه مرور المسيح في طريق عمّاوس، لا تراه العيون، لكنّ القلوب تعرف أنّه كان هنا.
في ثلاثة أيام، لم يكتشف لبنان حضور البابا فحسب، بل اكتشف حقيقة أعمق، أن الله لم يتركه يوماً، ولن يتركه إطلاقاً. الزيارة لم تكن حدثاً مارّاً، بل لحظة كشف فيها الله وجهه لشعبٍ أتعبته الظّلمة، وقال له على لسان راعي الكنيسة: " قُم يا لبنان، قُم أيها الوطن الحبيب، قُم وامضِ، إيمانُكَ خلَّصك".
غادر البابا لبنان، لكن طيفه لا يزال معلّقاً في هواء الوطن، والطمأنينة التي زرعها في النّفوس لا تزال تتردّد كنبضٍ خفيّ تحت الجلد، كصلاةٍ لا تنتهي. لم يغادر فعلياً، ترك ظلّه في الشوارع، وصوته في الأجراس، وبركته في القلوب التي كانت تبحث عن يدٍ إلهية تنتشلها من الغرق.
اليوم، لبنان ليس وطناً عاد من زيارة، بل قلب عاد من قيامة.
نبض