نعم لمُقاوَمة الوَحش
الاب ايلي قنبر
في أحد الأيّام، توجّه يسوع الناصريّ إلى شابٍّ سأله "ماذا أَعمَلُ مِن ٱلصَّلاحِ لِتَكونَ لي ٱلحَياةُ ٱلأَبَدِيَّة" بالقَول:"إِن كُنتَ تُريدُ أَن تَكونَ كامِلاً، فَٱذهَب وَبِع ما هُوَ لَكَ وَأَعطِهِ لِلمَساكين. فَيَكونَ لَكَ كَنـزٌ في ٱلسَّماء. وَتَعالَ ٱتبَعني". يتطلّع الشابّ إلى تجاوُز ما أُملِيَ عليه منذ صباه، وهذا ليس بالأمر اليَسير. لذلك، حين تلقّى جواب "المعلِّم"، "مَضى حَزينًا، فَإِنَّهُ كانَ ذا مالٍ كَثير". ذلك يعني أنّ "إتّباع الرّب يسوع المسيح... (أي) العدول عن كلّ خطيئة، والتزام كلّ فضيلة" أو بالأحرى "ليكُن (فينا) من الأفكار والأخلاق ما في المسيح يسوع"(فيلبّي 2: 5)، وهذا لا يحصل بين ليلةٍ وضُحاها ولا "بكبسة زرّ" أو بقرارٍ متسرِّع. بل يتطلَّب رؤيةً جادّة وخارطةَ طريق وجهدًا مُستمِرًّا وتعاونًا مع آخَرين يُقاسموننا الرؤية نفسها مُسانَدةً وشهادة.
وفي يومٍ آخَر، نطق يسوع نفسه بكلمةٍ قاطعةٍ أُخرى: "لا يقدِر أحدًا أن يَخدُم سيِّدَين، لأنّه إمّا أن يُبغِض الواحد ويُحبّ الآخَر، أو يُلازِم الواحد ويَحتقِر الآخَر. لا تقدِرون أن تَخدِموا الله والمال" (متّى 6: 24). عليّ أن أحسم امري، وأن أختار "النصيب الصالح الذي لا يُنزَع منّي" (لوقا 10: 42 ). لكن أمام الإغراءات الجمَّة، هل يُمكننا الصُمود؟ أو قُدّام التهديدات والأخطار المُحيقة، هل ننجح في الاستمرار في النهج الذي اختَطَّنا؟ قد يتَخاذَل بعضنا ويستسلِم، وهذا حصل دومًا عبر التاريخ. ولكن للتطمين والتشجيع، نُذكِّر بأن لن يربح الوحش في كلّ زمان ومكان: "أرشدوني، قال فيدِل كاسترو للصحافيّ، إلى حالة واحدة على مرّ التاريخ تمكّنت فيها مجموعة تقنيات الانتصار على حضارة". الأمر الذي تُؤكِّده مقالة حديثة بعنوان: "من وادي السيليكون إلى القلاع المحصَّنة: الشعب يريد إسقاط... أمراء التكنولوجيا"، بحيث يُشير الكاتب إلى"تُحوَّل الابتكارات التكنولوجية أدوات لزيادة أرباح الشركات لا لتحسين حياة البشر، ويُترَك ملايين الناس تحت رحمة منصات تحتكر العمل والمعرفة وتحدد شروط البقاء". وبحيث "يقف الفقراء اليوم وسط صراع تاريخي بين مجتمع تُسحق فيه الغالبيّة لمصلحة قِلَّة مالكة للتكنولوجيا ورأس المال، وإمكان بناء بديل يضع المعرفة والإنتاج في خدمة العدالة الاجتماعيّة". والسؤال الذي يطرحه عوّاد في نهاية مقالته: "هل تنجح مصاريف الأمن والاختباء خلف الجدران العالية، كما فعل اللوردات قبيل الثورة الفرنسية، في حمايتهم طويلاً (لِأُمراء التكنو)؟
في خضمّ الصراع بيننا وبين الوَحش يخرج "مُسوخ بشريّة" صنيعة الوحش إيديُولوجيًّا ليقولوا ما لفَظه تاريخ البشريّة ومسيرة مسيحيّي الشرق الشُهود للحقّ، والذين يستشهدون في سبيل قضايا الإنسان وأُولاها "هُنا والآن" القضيّة الفلسطينيّة. لقد قرأتُ مقالةً من خارج التاريخ والواقع جاء فيها: "الإدارة الأميركية الحالية هي الأكثر يَمينيّة وتزمُّتًا دينيًا في تاريخ الإدارات الأميركيّة، مع التزام قويّ للقيَم المسيحيّة". المُحافِظون الجدُد هُم المَقصودون، وهُم "مسيحيّون صهاينة" كما يُسَمّون أنفسهم، يستميتون في تَمويل الصهيونيّة وأداوتها والدفاع عنها، لكنّهم يجهلون القيَم الإنسانيّة، فكيف بهِم يعرفون القيَم "المسيحيّة" ويعيشونها؟ والأفظَع قَول كاتبة ذاك المقال "الافتِراضيّ"، لين طرابلسي: "إسرائيل، بصِفتها حليفًا استراتيجيًّا و"الطفل المدلَّل" لأميركا، تعتمد حماية الأقليّات والمسيحيين ركيزة أساسيّة لتعزيز أمنها في المنطقة". هذه المرأة لا تقرأ الواقع والتاريخ: ماذا حلّ بمسيحيِّي العراق وسوريّا وفلسطين ومصر والسُودان ... ولبنان؟ المسيحيّون "ركيزة أساسيّة لتعزيز أمنها في المنطقة": ماذا حلّ بجَيش أنطوان لحد، وأين صار مسيحيّو شرق صيدا والشوف، وما حال مسيحيّي البقاع وشمال لبنان؟ وهجرة الشباب "المسيحيّ" كيف تُسَمّيها؟ وتُضيف ما هو أشنَع: "لبنان يمثل نقطة استراتيجية حيَويّة للولايات المتّحدة، وضرورة وجوديّة لإسرائيل. وكما أكَّدت سابقًا، رغم السخريّة، فإن الأقليّات والمسيحيين في الشرق الأوسط يشكِّلون خطًا أحمر، وتجاوُزه تترتب عليه كلفة باهظة". كيف يعمل "عقل" تلك المرأة؟

إذًا، لا بدّ من الجهاد والحسم، على حدّ قَول رودولف القارح: "إمّا أن تقاوم الوحش الصهيو-أميركي، وإمّا أن تكون إلى جانبه، فاعلاً أو خادماً، أو مستسلماً. لم يعد هناك مجال للمساحات الرمادية النتنة". أَلَا ترَون الأمر مُلِحًّا وآنّيًّا؟ وهذا ما حسمه كبير حاخامات الحريديم في الكَيان الغاصِب قبل أسبوع تقريبًا في خطابٍ له أمام الحُشود المُتَظاهرة ضدّ سياسات نتِنياهو. يقول "في البديل عن الحرب، النقطة 4: "يجب إحياء صوت الضمير الدينيّ. وعلى الحاخامات والقيادات الروحيّة أن يكونوا صمّام أمان، لا أن يُستَغلّوا كأداة في يَدِ السياسيّين"...
وإلَّا صار الوقت للنظَر في اسلوب آخَر يَدفعون إليه الناس دَفعًا عبَّر عنه كاتبٌ قال:"إنّ مقدرة بقاء أي مجتمع بهوية وأخلاق هو في نسبة نجاحه على تنظيم رجاله على ممارسة القتال والعنف. وما وهنُ العرب التاريخي إلا في نسبة نجاحنا في إنتاج هذا التنظيم، أي إنتاج حركات المقاومة المسلحة ثم بناء الدولة والجيش، ولا يكون بناء هذا التنظيم من دون منظومة أخلاقية وأيديولوجية رحبة ترنو إلى كونية خير الأمم والبشر، أي ما يصطلح عليه بـ"الأممية".
أن نُقاوم الوحش المتربِّص بنا عبر العالم وخصوصًا عالمنا العربيّ أمرٌ محتوم، ولكن كيف؟ بأيّ افكار وأدوات؟
نبض