إيران… من إدارة الصبر إلى احتمالات الانفجار الكبير

آراء 09-12-2025 | 15:39

إيران… من إدارة الصبر إلى احتمالات الانفجار الكبير

حين يهبط متوسط الدخل الشهري لشريحة واسعة من الإيرانيين إلى ما يعادل 180–220 دولاراً( في العام 2010 كان يعادل 600-700 دولار)، بينما ترتفع أسعار السلع الأساسية بنسب تتجاوز قدرة أي أسرة على التكيّف، يصبح السؤال المنطقي ليس: لماذا لا يخرج الناس؟ بل: كيف لا يزالون قادرين على البقاء؟
إيران… من إدارة الصبر إلى احتمالات الانفجار الكبير
مشهد عام في إيران (أ ف ب).
Smaller Bigger

لم يكن فرناند بروديل، أحد أبرز أعلام مدرسة الحوليات الفرنسية، مجرّد مؤرّخ يروي أحداثًا وقصصًا؛ بل كان صاحب ثورة معرفية غيّرت طريقة فهمنا للتاريخ. رفض بروديل أن تكون السياسة والمواجهات العسكرية هي مركز التحليل، واعتبر أنّ ما نراه على سطح التاريخ ليس إلا طبقة رقيقة فوق محيط عميق من البُنى الاقتصادية والاجتماعية. فالتاريخ، عنده، لا يُكتب بالقرارات السريعة أو الخطابات المرتجلة، بل يُصاغ عبر التراكم البطيء لأسعار القمح، طرق التجارة، حياة الفلاحين، إيقاع العمل، وتحوّل الأسواق.

بروديل أعاد ترتيب أولويات المؤرخ: فالحدث السياسي لحظة عابرة، أما الاقتصاد والمجتمع فهما الزمن الطويل الذي يحدّد شكل الدولة وقدرتها على الاستمرار. لذلك لا يمكن تفسير ثورة أو حرب أو سقوط نظام بمجرد دراسة الزعماء، بل يجب النظر إلى ما تحت أقدامهم: الطبقات الاجتماعية، مستوى المعيشة، أنماط الاستهلاك، وتوزيع الثروة.

وانطلاقًا من هذا المنهج العميق—الذي يجعل الاقتصاد مرآة المجتمع—يمكن فهم الواقع الإيراني اليوم. ليس من خلال خطابات السلطة أو صمت الشارع، بل عبر الأرقام التي تتراكم في الأسواق، والضغوط التي تحاصر الأسر، والبُنى التي تتآكل بصمت تحت وطأة الغلاء.

حين يهبط متوسط الدخل الشهري لشريحة واسعة من الإيرانيين إلى ما يعادل 180–220 دولاراً( في العام 2010 كان يعادل 600-700 دولار)، بينما ترتفع أسعار السلع الأساسية بنسب تتجاوز قدرة أي أسرة على التكيّف، يصبح السؤال المنطقي ليس: لماذا لا يخرج الناس؟ بل: كيف لا يزالون قادرين على البقاء؟ 

سعر اللحوم، الخضار، الخبز، الدواء، أجور النقل، والسلع الصناعية—جميعها تحوّلت إلى مؤشرات اجتماعية تفضح حجم الشرخ بين الدولة والمجتمع.

ولأن لغة الأرقام تحتاج إلى أمثلة دقيقة، نقدّم هذا الجدول التحليلي الذي يعكس متوسط نسب الارتفاع خلال السنوات الأخيرة 

جدول تحليلي لارتفاع أسعار السلع الأساسية في إيران

 

 

جدول تحليلي لارتفاع أسعار السلع الأساسية في إيران
جدول تحليلي لارتفاع أسعار السلع الأساسية في إيران

 

هذه ليست مجرد زيادات رقمية، بل تغيّر جذري في نمط حياة مجتمع كامل.

فالأسرة التي كانت تشتري اللحوم أسبوعيًا، أصبحت تشتريها مرّة في الشهر. والأسر التي كانت تستبدل نوع دوائها بجودة أعلى، أصبحت تبحث عن "النسخ الأرخص" حتى لو كانت أقل فعالية. أمّا الطبقة المتوسطة—التي لطالما كانت ركيزة استقرار أي دولة—فقد انزلقت نحو هاوية الفقر.

عندما تصبح سلّة الغذاء اليومية عبئًا، وحين تتطلب نفقات التعليم والنقل والصحة القدرة على الاقتراض، فإن المجتمع ينتقل إلى مرحلة "الفقر البنيوي"، حيث لا يعود الفقر حالة فردية، بل ظاهرة جماعية قادرة على تغيير موازين القوة.

لكن ما لم يتحقّق حتى الآن هو الترابط بين الفقر والغضب الشعبي؟

هنا، لا بدّ من الإشارة إلى العامل الأكثر حساسية في المشهد الإيراني:
الباسيج والحرس الثوري… المؤسسة التي تُحكِم القبضة

إنّ أحد الأسباب الجوهرية لغياب الاحتجاجات ليس الرضا الشعبي، بل منظومة الردع الاجتماعي – الأمني التي بناها النظام الإيراني خلال العقود الماضية.

الباسيج منتشر في الجامعات، الأحياء، المعامل، الإدارات، ويعمل كعين دائمة تراقب أي نواة اعتراض.

الحرس الثوري لا يؤدي دورًا عسكريًا فحسب، بل يهيمن على قطاعات اقتصاد رئيسية: الطاقة، البناء، الاتصالات، المرافئ، وحتى بعض الصناعات التحويلية.

أجهزة الدولة الإلكترونية – سواء عبر فلترة الإنترنت أو التحكم بمنصات التواصل – تشكل جدارًا يمنع قياس المزاج الاجتماعي الحقيقي.

بهذه التركيبة، يصبح المجتمع تحت ثلاث طبقات من الضغط:

1. ضغط معيشي قاسٍ،
2. ضغط أمني مباشر،
3. ضغط رقابة وهيمنة على الإعلام والمعلومات.

بالعودة الى مدرسة الحوليات، فإن التاريخ لا تصنعه اللحظات الطارئة ولا الانفعالات السياسية العابرة، بل تتشكّل مساراته العميقة عبر البُنى الاقتصادية والاجتماعية التي تتراكم ببطء حتى تصنع ما يشبه "التحوّل الزلزالي" في الوعي والسلوك. ومن هذا المنظور البنيوي، تبدو إيران اليوم أمام لحظة تاريخية حسّاسة: فالتآكل الاقتصادي، وانكماش الطبقة الوسطى، واتساع فجوة اللامساواة، ليست مؤشرات ظرفية بل طبقات من الضغط تتراكم فوق بعضها كما تتراكم الحمم تحت بركان خامد.

قد تتفاوت سرعة الاحتجاجات وقد تتبدّل أشكالها، لكن البنية العميقة التي تصفها الحوليات تشير إلى أنّ الانفجار – حين يحدث – لا يكون وليد لحظة، بل نتيجة زمنٍ طويل من التحولات الصامتة. وما تشهده إيران اليوم هو بالضبط هذا الزمن الصامت الذي يسبق العاصفة، أو ذلك الاهتزاز الخفيف الذي يُنذر ببركان لم يعد من الممكن تجاهل حرارته الكامنة.

 
العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/8/2025 10:41:00 AM
فر الأسد من سوريا إلى روسيا قبل عام عندما سيطرت المعارضة بقيادة الرئيس الحالي الشرع على دمشق
النهار تتحقق 12/8/2025 10:43:00 AM
الصورة عتيقة، وألوانها باهتة. وبدا فيها الرئيس السوري المخلوع واقفا الى جانب لونا الشبل بفستان العرس. ماذا في التفاصيل؟ 
النهار تتحقق 12/8/2025 2:57:00 PM
الصورة حميمة، وزُعِم أنّها "مسرّبة من منزل ماهر الأسد"، شقيق الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد. ماذا وجدنا؟ 
أثار سكنه في شقة بتكلفة 2300 دولار شهرياً انتقادات من خصومه الذين يعتقدون أن راتبه كعضو في جمعية ولاية نيويورك ودخل زوجته يسمحان للزوجين بالسكن في شقة أفضل.