من يوحنا إلى لاوون... والدائم المأزوم!
في تاريخ لبنان بعد استقلاله زيارات متفاوتة المدد لأربعة بابوات منذ ستينات القرن الماضي. لكن درة التاج فيها إطلاقاً، كانت الزيارة المبهرة التاريخية لأحد أكثر البابوات إثارة للتوهج في سائر أنحاء العالم، البابا الملهم يوحنا بولس الثاني، الذي وطأت قدماه تراب لبنان، وقبّل ذاك التراب عام 1997، رافعاً نبض اللبنانيين إلى ذروات روحية ومعنوية غير مسبوقة، في ظروف المعاناة الشرسة تحت وطأة الوصاية الاحتلالية لنظام حافظ الأسد آنذاك.
المفارقة التاريخية التي تواكب الزيارة المقبلة، ما بين الأحد والثلاثاء المقبلين، للبابا الحديث الولاية لاوون الرابع عشر إلى لبنان، أنها تدرج في مقارنة متماهية مع زيارة يوحنا بولس الثاني، باعتبار أن زيارة البابا الثالث بينيديكتوس للبنان إبان عهد الرئيس ميشال سليمان حصلت وسط ظروف مختلفة عن مطالع عصر الطائف من جهة، كما أن شخصية البابا بينيديكتوس المعروف بأكاديمية فلسفية صارمة أكثر منها شعبية، لعبت دوراً في تمايزات الزيارة عن سابقتها.
ليس من الحكمة دوماً استباق حدث سيختلط فيه الطابع الديني والقيمي الغالب على أول رحلة للبابا الجديد اختارها لتركيا ولبنان مع الطابع المعنوي والسياسي والوطني، بتوقعات متسرعة حيال الكيمياء الشعبية التي يحركها الأحد إلى الثلاثاء وجود البابا لاوون متنقلاً بين رحاب حريصا وعنايا وبكركي ودير الصليب ومرفأ بيروت ووسط بيروت وواجهة بيروت البحرية… في مناطق القداسة والوجع كما في مناطق "وحدة" عيش المسيحيين والمسلمين.
سيطأ رأس الكنيسة الكاثوليكية أرض لبنان مكملاً رسالة قيمية ثابتة وتاريخية حيال لبنان وحيال المسيحيين، الذين يعانون في مناطق الصراعات في الشرق الأوسط ويتناقص وجودهم وتأثيرهم على نحو "مرعب"، بما يفاقم الجفاف الحضاري في هذه المنطقة الملعونة من العالم، لأن الفاتيكان لا سياسات سياسية لديه ولو كان ممثلاً دولة زمنية هي الأصغر جغرافية في العالم.
المسألة المقلقة إلى حدود الرعب الآخر، أن البابا الحديث المعرفة بلبنان والمنطقة، يدلل بتخصيصه لبنان بأول رحلة خارجية له، على ما يتجاوز الفهم العميق والأعمق من العميق، لمآل لبنان المأزوم فيما أبناء لبنان يتناوبون حقبة بعد حقبة، وتجربة إثر تجربة، وعلى امتداد عشرات السنين، على حقيقة تاريخيّة مفجعة هي القصور والعجز عن استحقاق الوطن الذي وصفه يوحنا بولس الثاني بالبلد الرسالة.
بين يوحنا ولاوون لبنان المأزوم، خلع الوصاية السورية ولكنه الآن يرزح تحت نزاع الفصل "الأخير" بين وصاية السلاح الإيراني والآلة الإسرائيلية. نحو ثلاثة عقود بين رحلات ثلاثة بابوات للبنان، والبلد الرسالي ينازع تحت خاطفيه وممتهني سيادته ومستبيحيه الإقليميين، بتبدل اللافتات الشكلية فقط فيما الأزمة التاريخية تتأصل في تاريخيتها السلبية، أن لبنان لا مظلة وطنية من مسيحيين ومسلمين تحميه، بل لا يزال عرضة لوحوش الشرق الأوسط ومطامع الوسطاء والأصدقاء ومصالحهم وأفضالهم سواء بسواء. يتبدل البابوات، وتتبدل الأنظمة والسياسات، ولبنان لا يتبدل في نزع قدره الأسود هذا لأن الاستباحة الإقليمية غالباً ما تتكىء تاريخياً أيضاً، على تعاقب الحروب والأزمات الداخلية والخارجية، على لبنانيين مرتهنين يمتهنون الخدمات القاتلة لخارج من هنا وخارج من هناك لا يتحمل لبنان النموذج التاريخي الفذ. فجّروا لبنان قبل خمسة عقود ويفجّرونه الآن تباعاً، للسبب التاريخي إياه، إنه نموذج لا يتحمّله الأحاديون في الشرق الأوسط، سواء كانوا دولاً أو أنظمة أو عقائد... والبابا لا يملك إلا الإيمان.
نبض