أنت المشترك الوحيد!

أنت المشترك الوحيد!
صورة تعبيرية
Smaller Bigger

من كان يتخيل أن وسائل التواصل الاجتماعي ستتحكم بحياتنا إلى هذا الحد. 
 ومع تطور الهاتف الذكي وبرامج التواصل الخلّاقة، صار الأمر أكثر يُسراً ورشاقة، نرسل تحايا الصباح والأعياد ونرفق للأعزاء وردة وقبلة افتراضية، وذلك كل ما غدا ممكناً لصون ما تبقى من علاقات اجتماعية. 
وشيئاً فشيئاً قلّت الزيارات بل وانعدمت، وحتى الاتصال الصوتي ما عاد ممكناً، في زحمة حياة جافة إنسانياً، مزدهرة تكنولوجياً، وصار نسق الحياة وترابطها لا يزيد عن مجموعة في تطبيق "واتساب".
كل أسرة لها مجموعتها العائلية، تنقل سلاماتهم وترسل قبلاتهم، وتتسقط أخبار من تعرف عبر حساب إلكتروني في سماء العالم الافتراضي،
تنشر الأخبار فتعرف أين ذهب فلان أو أين قذفت به الدنيا. 
تُنشر التعازي، وتهاني الأفراح على حسابات الأقرباء، فتجتمع الوجوه، وتسقط واجبها عبر عبارات عابرة، ورسوم غريبة، وتنتهي الحياة بغرائبية أكثر. 
أفقدنا هذا الفضاء الافتراضي حضن الأحبة، ولمسة أياديهم، وزاد فينا الحنين إلى سماع خطو أقدامهم على عتبات منازلنا. 
أفقدنا ضجة اللقاء وزحمة الأحضان، وبهجة رؤية عصافير الفرح تقفز من قلوبهم، ولحظة الشجن ونحن نرقب رقرقة دمعة العين الملهوفة باللقاء. 
كنّا نسرف بالاتصال عبر الهاتف الأرضيّ المسحوب بسلك يجوب البيت، ونجري في أرجاء منزل مكتظ بالبشر، نجري سبقاً لرفع سمّاعة الهاتف ونردّ، فالحقيقة أن الصوت هو العناق الأول للبشر،
ولا يبقى في الذاكرة أكثر وقعاً وألماً مثل صوت من نفتقدهم. لذا كان شكل جهاز الهاتف العتيق في ركن المنزل له هيبته، وضمن ديكور المنزل الأساسي.
 الآن، ماعاد المرء يتذكّر رقم الهاتف الأرضي هذا، ولا حتى موقعه في منزل قصيّ غارق في الصمت، وزادت ظروف الحياة المتنقلة بين القارات من صعوبة أن تجد وقتاً وجهداً لسماع أصوات الأحبة في كل حين، ناهيك  بلقياهم وصخب تجمعهم.
حياتك معلّقة بهاتف نقّال لا أكثر. 
فقدنا الذاكرة بعد أن كنا نتباهى بحفظ أرقام كل الأصدقاء وأهل الحارة كلها. الآن يسألك المرء عن رقم "الواتس" الخاص بك فتنتظر تبحث عنه في حافظة الهاتف لا في تلافيف ذاكرتك.
  هذا الهاتف الجوال هو هويتك، وفيه كل ملفاتك وخصوصياتك، إذا فقدته ستحتاج معجزة لتُعّرف الآخرين بمكان موقعك بل من تكون .
لم نعد مواطني بلدان لها نشيد وعلم وشهداء وتاريخ، بل مواطني شركات عابرة للأوطان. 
أنت تتبع شركة عابرة، وبصمة صوتك محفوظة على قطعة هاتف ذكيّ صنع في أميركا أو الصين أو كوريا، لا في أرشيف مصلحة الأحوال المدنية. 
شركات تعرف كل خلجاتك لا بيانات عمرك وعنوانك فقط، فهذه شريحة بقطعة حديد فيه رقمك، وهو كلّ ملف عمرك المبدد بين حروب العشائر،
 محفوظ لدى الشركة التي لا تحتفظ ببيانتك فقط، ولكن حتى بما يتردد في ذهنك من أفكار، وبما في نفسك من رغبات.
فكّر وتحدث في أيّ موضوع أمام هذا الهاتف، ثم عُد إلى فضاء الإنترنت فستجد سيلاً من المعلومات والإعلانات تتدفّق وتعيد إليك ما كنت تتحدث عنه، بل وتفكّر فيه! 
أنت مواطن مستباح عالمياً، من جميع أهل سطوة قوة المعرفة. مكشوف لكلّ منصة استهلاك عالمية، لكنك شخص بعيد ومنغلق على مستوى العائلة، التي صارت تراك من خلال عباراتٍ جاهزة معلّبة، وورود مرسومة ببشاعة، صُمّمت للتواصل الافتراضي.  
فحتى الزهور الجميلة اختفت من حياتنا، صرنا أشكالاً مرسومة ببرنامج على الهاتف، وأرقاماً تتلاشى لا أكثر. 
هذا عالم موحش بفراغه، غريب بجنونه، جعل الكون قرية صغيرة تراها من خلال شاشة هاتفك، وجعلك أبعد ما تكون عن محيطك الصغير الفعلي. لا تسمع همس من حولك ولكن تشدّك صرخات مجنونة عابرة للمحيطات. وعندما تفتش حولك تجد هذا العمر تسرّب كما هو في سراب شاشة صغيرة، وكأنه مجرد بخار بطيء لا رائحة له.
وها أنا مثلاً خلال ثلاثة أعوام لا غير كنتُ في مشهد موجع مع هذا الفضاء الافتراضي، وتجربة صغيرة في الواقع، كبيرة في الأثر. 
 أنشأنا مجموعة تواصل مغلقة، قلّة من أصدقاء العمر ورفاق الدرب، انقضى العام الأول وإذ بالدرب يقصر، والمجموعة تضيق، ويُغّيب الموت نصف المجموعة بشكل متلاحق عجيب، ويغادر بعضها المكان ضمن هجرات شتات لا ينتهي.
وكم يحزّ في النفس، وأنت تقرأ بهاتفك تلك العبارات الباردة عن تلاشي الحياة وتبخر العمر، مثل فلان غادر المجموعة، وفلان غيّر رقمه، وآخر صار رقماً هامداً لا تعرف أين ابتلعته بحار البعد والصمت.
ثم تغلق المجموعة بعبارة تقول بجفاء: أنت المشترك الوحيد
العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/8/2025 10:41:00 AM
فر الأسد من سوريا إلى روسيا قبل عام عندما سيطرت المعارضة بقيادة الرئيس الحالي الشرع على دمشق
النهار تتحقق 12/8/2025 10:43:00 AM
الصورة عتيقة، وألوانها باهتة. وبدا فيها الرئيس السوري المخلوع واقفا الى جانب لونا الشبل بفستان العرس. ماذا في التفاصيل؟ 
النهار تتحقق 12/8/2025 2:57:00 PM
الصورة حميمة، وزُعِم أنّها "مسرّبة من منزل ماهر الأسد"، شقيق الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد. ماذا وجدنا؟ 
أثار سكنه في شقة بتكلفة 2300 دولار شهرياً انتقادات من خصومه الذين يعتقدون أن راتبه كعضو في جمعية ولاية نيويورك ودخل زوجته يسمحان للزوجين بالسكن في شقة أفضل.