فرنسا الليبرالية: وهمُ الثبات في زمن التحوّل

مقالات 09-10-2025 | 09:24

فرنسا الليبرالية: وهمُ الثبات في زمن التحوّل

يلوح في الأفق تقاربٌ حذر بين الوسط واليسار، تحالفٌ براغماتيّ أكثر منه إيمانيّ
فرنسا الليبرالية: وهمُ الثبات في زمن التحوّل
رئيس الوزراء الفرنسي سيباستيان لوكورنو.(أف ب)
Smaller Bigger

في قلب باريس، حيث تتقاطع السياسة بالتاريخ، تعيش فرنسا لحظة ارتباكٍ وجوديّ تتجاوز حدود البرلمان. خمس حكومات في عامٍ واحد، وحجب ثقةٍ يتلوه آخر، ومجتمعٌ فقد ثقته بمؤسساته التي كانت يوماً مرآةَ العقل الأوروبي. لكن ما يجري ليس مجرد فشلٍ إداري أو ارتباكٍ في التحالفات؛ إنه انكشافٌ عميق لشرخٍ ثقافيٍّ يزداد اتساعًا بين ليبراليةٍ فردانيةٍ استُهلِكت، وهوياتٍ جماعيةٍ تبحث عن موطئ قدمٍ في الجمهورية الخامسة.
منذ عقودٍ بنت فرنسا مشروعها على فكرة “الفرد المواطن”، ذاك الكيان الحرّ الذي يعلو على العائلة والطائفة والعِرق. غير أن الواقع المعاصر أعاد طرح الأسئلة القديمة: ماذا لو لم يَعُد الفرد قادرًا على الاحتماء بدولةٍ تُفرغ انتماءاته من المعنى؟ وماذا لو تحوّلت الحرية الفردية إلى عزلةٍ جماعية؟ هنا، يتجلّى الصدام بين فلسفةٍ ليبراليةٍ تُمجّد الذات، وبين مجتمعاتٍ تبحث عن روابط ومعنى وانتماء.

الأزمة السياسية الراهنة تُجسّد هذا الصراع الثقافي في صورةٍ مؤسساتية. فالحكومة التي سقطت ليست وحدها التي عجزت عن الصمود؛ بل منظومةٌ كاملة تتآكل قدرتها على إنتاج التوافق. البرلمان مشرذمٌ إلى ثلاث كتل متناحرة: وسطٌ تكنوقراطي يقوده ماكرون، يسارٌ مشتّت يحاول أن يجد لغته بين العدالة الاجتماعية والواقعية السياسية مثّله جان لوك ميلانشون في الانتخابات الرئاسية السابقة، ويمينٌ قوميّ يتغذّى من خوف الطبقات المهمّشة ومن حنين الهوية الضائعة، تمثله مارين لوبان التي حظرت المحكمة في باريس شغلها للمناصب السياسية لمدة خمس سنوات في مارس الماضي. وبين هذه التيارات، تضيع فرنسا التي كانت تفاخر بديناميكيتها الفكرية وقدرتها على توليد الحلول من رحم الأزمة.

ما يفاقم المأزق أن الليبرالية الفرنسية فقدت إيمانها بنفسها. فالإصلاحات التي كانت تُقدَّم باسم الحداثة تحوّلت إلى رموزٍ للتفاوت الطبقي، والحديث عن السوق الحرّ صار مرادفًا لتآكل العدالة الاجتماعية. أما الهجرة، التي كانت يوماً شعار الانفتاح، فأصبحت وقوداً للانقسام والهواجس الأمنية. في المقابل، لم ينجح اليمين القومي في تقديم بديلٍ حقيقي، إذ يقف أسير خطاب الهوية أكثر مما يمتلك مشروعاً للدولة.

لكنّ البعد الثقافي للأزمة لا يمكن فصله عن بعدها المؤسسي. فالجمهورية الخامسة وُلدت لتمنح الرئيس قوةً فوق العواصف، غير أن تعدّد الأحزاب وانقسام البرلمان جعل من تلك القوة عبئاً على النظام نفسه. فالحكومات تتشكّل على عجلٍ لتسقط على عجل، والقرارات تمرّ بالمادة 49.3 كإجراءٍ فوقيٍّ يزيد الفجوة بين الشعب ومؤسساته. لم تَعُد فرنسا تعاني من “سوء إدارة”، بل من تعبٍ تاريخيٍّ في تعريف ذاتها.

وفي ظلّ هذا الانهاك، يلوح في الأفق تقاربٌ حذر بين الوسط واليسار، تحالفٌ براغماتيّ أكثر منه إيمانيّ، يفرضه الخوف من الانهيار لا الإيمان بالمشروع المشترك. فالوسط يضطر إلى التنازل عن بعض صرامته الاقتصادية لصالح سياسات اجتماعية تُرضي الشارع، واليسار يلين في مواقفه من الاتحاد الأوروبي والضرائب كي لا يُتهم بالشعبوية. إنها معادلة هشّة، لكنها قد تُنتج حكومة “عقلانية مؤقتة” تحفظ ما تبقى من توازن الدولة وتمنع اليمين المتطرف من الانقضاض على السلطة.

في الأفق القريب، تبدو فرنسا مقبلة على مرحلة انتقالية طويلة، لن يُحسم فيها الصراع بسهولة. السيناريو الأقرب هو قيام حكومةٍ وسط-يسار متذبذبة، تمسك العصا من المنتصف، وتعيش على التهدئة لا الإصلاح. أما السيناريو الأخطر، فهو أن يُفضي هذا الإرهاق الجماعي إلى عودة اليمين القومي بقوة انتخابية لا سابقة لها، مدعوماً بوجدانٍ شعبي يبحث عن هويةٍ لا عن برنامج.
فرنسا التي كانت تُعلّم العالم معنى الحرية، تبدو اليوم تائهة بين الحرية وهويتها. إنها لا تعيش أزمة حكومة فحسب، بل أزمة فكرة. والسؤال الذي تخشاه باريس أكثر من غيره ليس: من سيحكم؟ بل: أيُّ فرنسا ستبقى لتحكُم؟

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/8/2025 10:41:00 AM
فر الأسد من سوريا إلى روسيا قبل عام عندما سيطرت المعارضة بقيادة الرئيس الحالي الشرع على دمشق
النهار تتحقق 12/8/2025 10:43:00 AM
الصورة عتيقة، وألوانها باهتة. وبدا فيها الرئيس السوري المخلوع واقفا الى جانب لونا الشبل بفستان العرس. ماذا في التفاصيل؟ 
النهار تتحقق 12/8/2025 2:57:00 PM
الصورة حميمة، وزُعِم أنّها "مسرّبة من منزل ماهر الأسد"، شقيق الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد. ماذا وجدنا؟ 
أثار سكنه في شقة بتكلفة 2300 دولار شهرياً انتقادات من خصومه الذين يعتقدون أن راتبه كعضو في جمعية ولاية نيويورك ودخل زوجته يسمحان للزوجين بالسكن في شقة أفضل.