الطبوبي يتمسّك باستقالته... وأفق غامض أمام اتحاد الشغل التونسي
في خبر لم يكن مفاجئاً بتقدير العديد من المراقبين للمشهد التونسي، قدّم الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نورالدين الطبوبي استقالته من منصبه، في خطوة يُرجَّح أن تتجاوز تداعياتها جدران أكبر منظمة نقابية في البلاد.
وتؤكد مصادر مقرّبة من الاتحاد، لـ"النهار"، أن الطبوبي لا يزال متمسكاً باستقالته بعد مرور أسبوع على تقدمه بها، ما أثار تساؤلات واسعة حيال خلفيات القرار، ومدى ارتباطه بالأزمة الداخلية التي تعيشها المنظمة، فضلاً عن تقاطعه مع التطورات السياسية والاجتماعية التي تشهدها تونس.
ويشغل الطبوبي منصب الأمين العام منذ عام 2017، ويُعدّ، وفق مراقبين، من الشخصيات النقابية ذات الوزن الثقيل، إذ عُرف عنه قدرته على المراوحة بين التصعيد والديبلوماسية في إدارة العلاقة بالسلطة.
تراجع النفوذ
وأتت الاستقالة بعد أيام قليلة من إعلان الاتحاد العام التونسي للشغل نيته تنفيذ إضراب عام وطني يوم 21 كانون الثاني/يناير المقبل، احتجاجاً على ما يعتبره تهميشاً لدوره، وعدم تفاعل السلطات مع مطالبه، وفي مقدمها فتح مفاوضات بشأن الزيادة في الأجور.
ومنذ الإجراءات الاستثنائية التي أُعلنت في العام 2021، تراجع نفوذ الاتحاد في المشهد العام، فيما حرصت قيادته الحالية على تجنّب الدخول في مواجهة مباشرة مع السلطة، وهو ما جعلها محل انتقادات واسعة من أطراف معارضة اتهمتها بالخضوع للضغوط والحسابات الضيقة.
في المقابل، لم يتردد الرئيس قيس سعيّد في أكثر من مناسبة في توجيه انتقادات مباشرة أو غير مباشرة للاتحاد، رافضاً وجود أي سلطة أو جهة تقدّم نفسها ندّاً للدولة.
وفي أيلول/سبتمبر الماضي، تظاهر عدد من المحتجّين الذين قدّموا أنفسهم على أنهم أنصار سعيّد أمام مقر الاتحاد، مطالبين بحلّه ومحاسبة قياداته، لـ"تورّطها في ملفات فساد كبرى".
ويُتَّهم الاتحاد، من قبل خصومه، بإغراق البلاد في دوّامة المطلبية بعد أحداث 2011، من خلال تنفيذ إضرابات متكررة شملت خصوصاً القطاعات الحكومية، وأدّت إلى تعطّل عدد من المرافق الحيوية وتكبيد الاقتصاد خسائر كبيرة.
كذلك، يتهمه بعض منتقديه بـ"التغوّل"، معتبرين أنه حاد عن دوره النقابي ليلعب أدواراً سياسية، بلغت حدّ التأثير في تشكيل الحكومات وإسقاطها، وهي اتهامات ترفضها المنظمة، مؤكدة أنها ليست حزباً سياسياً، لكنها معنية بالشأن العام بوصفها جزءاً من النسيج الوطني.
ويُذكر أنه في العام 2015، نال الاتحاد، إلى جانب عدد من المنظمات الوطنية، جائزة نوبل للسلام، بعد رعايته لحوار وطني أنهى أزمة سياسية حادّة بين الإسلاميين وخصومهم، وأفضى إلى تسليم السلطة وتنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية.

أزمة داخلية
وتُلقي استقالة الطبوبي بظلال ثقيلة على مستقبل الاتحاد، ففي حين يرى البعض أنها "ضربة قاصمة قد تُعمّق الانقسامات الداخلية وتزيد من إضعافه" نظراً لثقل اسم الأمين العام المستقيل، يعتقد آخرون أن المنظمة العريقة قادرة على الاستمرار مهما تغيّرت قيادتها.
وعاش الاتحاد منذ عام 2021 على وقع أزمة داخلية حادة، بعد تمسّك القيادة بتعديل النظام الداخلي بهدف التمديد للطبوبي ومن معه، وهو ما رفضه شق من النقابيين الذين توجهوا إلى القضاء للطعن بهذه الخطوة.
وتقول مصادر مقرّبة من الاتحاد لـ"النهار" إن "هذه الأزمة كانت من بين العوامل الرئيسية التي عجّلت باستقالة الطبوبي، إذ تم تحميله مسؤولية الانقسام الداخلي".
ويرى الأستاذ الجامعي عبد الجليل بوقرة أن استقالة الطبوبي "هي نتيجة أزمة هيكلية عميقة يعيشها الاتحاد منذ مطلع القرن الحالي بلغت تداعياتها أروقة المحاكم". ويضيف أن البعض قد يعزو الاستقالة إلى تضييقات السلطة على الاتحاد، غير أن هذه العوامل، في تقديره، تبقى "ثانوية" مقارنةً بالعوامل الداخلية.
ويعتبر بوقرة أن جوهر الأزمة يكمن في انتهاء صلاحية النهج البيروقراطي الذي تمسّكت به القيادات المتعاقبة منذ عهد الزعيم النقابي الراحل الحبيب عاشور، مؤكداً أن هذا الأسلوب لم يعد صالحاً لتسيير منظمة نقابية كبرى في سياق تحوّلات القرن الحادي والعشرين.
ويشدّد على أن القيادات المتعاقبة رفضت الشروع في إصلاح هيكلي حقيقي، متمسكة بعقلية الستينيات والسبعينيات في زمن مختلف جذرياً. ويخلص إلى أن الطبوبي ومن معه لم يكونوا في مستوى قيادة منظمة عريقة بحجم اتحاد الشغل، ولا في حجم التحديات والأزمات التي واجهتها البلاد.
فراغ كبير ومصير غامض
وأحدثت استقالة الطبوبي، التي لن تصبح نافذة إلا بعد مرور أسبوعين على تقديمها، هزّة قوية داخل الأوساط النقابية والسياسية في تونس. ورغم الإقرار بتراجع نفوذ الاتحاد، فإنه لا يزال، في نظر كثيرين، أحد أبرز مكونات المجتمع المدني في البلاد.
ويعتبر المحلل السياسي بوبكر الصغير أن استقالة الطبوبي "ليست حدثاً تقنياً داخل مركزية نقابية، بل لحظة خطيرة تكشف حجم الانحدار الذي بلغته آخر قلاع المجتمع المدني".
ويضيف في تصريح لـ"النهار" أن "الاستقالة، حين تحصل داخل منظمة بحجم الاتحاد العام التونسي للشغل، لا تبقى آثارها حبيسة الجدران، بل تمتد إلى الشارع وإلى التوازنات الاجتماعية وإلى فكرة الوساطة بين الدولة والمجتمع".
ويرى أن الأزمة التي يعيشها الاتحاد غير مسبوقة، محذراً من أن أخطر ما فيها هو مآلاتها المحتملة، التي قد تكون "قاتلة". ويؤكد أن "تفكك المنظمة أو تهميشها لا يعني مجرد تغيير قيادة، بل سقوط صرح وطني وفتح فراغ مدني خطير في لحظة يُدفع فيها المجتمع نحو مزيد من العزلة والتفكك".
وبغضّ النظر عن دوافع استقالة الطبوبي، فإن المؤكد أنها تكشف حجم العطب الذي أصاب المجتمع المدني في تونس، وتنذر بتراجع كبير في دور منظمات شكّلت، لعقود طويلة، العمود الفقري للمشهد العام في البلاد.
نبض