تركيا في عين العاصفة: هل تستطيع أنقرة إنقاذ الليرة وكبح التضخم؟
كتب أحمد عزام، المحلل الماليّ الأول في مجموعة إكويتي، لـ"النهار":
تعيش تركيا لحظة اقتصادية وسياسية قد تحدد ملامح مستقبلها لسنوات قادمة. من اعتقال عمدة إسطنبول إلى تصاعد التضخم وتهاوي الليرة، تبدو البلاد وكأنها على حافة الانفجار. فهل تنجح السلطات في السيطرة على الأزمة؟ أم أن العاصفة ستأخذ الاقتصاد التركي إلى مجاهل لا تُحمد عواقبها.
موجة هلع تضرب الأسواق التركية
ما حدث الأسبوع الماضي لا يمكن وصفه إلا بأنه "هروب رأسمالي جماعي". مليارات الدولارات تدفقت خارج السوق التركية فور إعلان اعتقال رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، وهي خطوة فُهمت على نطاق واسع بأنها تصعيد سياسي ضد شخصية ذات ثقل جماهيري، وقد تكون المعارضة الحقيقية لأردوغان خلال الانتخابات المقبلة.
فقد مؤشر بورصة إسطنبول أكثر من 17% من قيمته، وهو أسوأ أداء أسبوعي منذ أزمة 2008. الليرة التركية هبطت إلى مستوى قياسي جديد قرب 42 مقابل الدولار، قبل أن تعود للاستقرار حول مستوى 38 بعد تدخلات قوية من قبل البنوك الحكومية وضخ ما يقرب من 11.2 مليار دولار في سوق الصرف. عوائد السندات السيادية قفزت بأكثر من 230 نقطة أساس، بينما ارتفعت عقود التأمين ضد تخلف الحكومة عن السداد (CDS) إلى أعلى مستوياتها منذ عام؛ دليل واضح على المخاوف التي عصفت في الأسواق.
الحكومة تتحرك: جلسة طارئة... وضخ سيولة
الرد الرسمي التركي جاء سريعًا. عقد وزير المالية محمد شيمشك ومحافظ البنك المركزي فاتح كاراها اجتماعًا مغلقًا يوم الثلاثاء مع كبار المستثمرين الأجانب عبر مؤتمر نظّمته Citigroup وDeutsche Bank في محاولة لاحتواء الذعر وإعادة الثقة.
شيمشك الذي يتمتع بثقة المؤسسات الدولية بفضل خلفيته في "وول ستريت"، أكد التزام الحكومة بالسياسات الاقتصادية الأرثوذكسية واستقلالية البنك المركزي. أردوغان نفسه خرج بتصريحات مباشرة يدعم فيها سياسة شيمشك ويؤكد على “عدم التراجع عن برنامج الاستقرار الاقتصادي”.
كيف حاولت أنقرة تهدئة الأسواق؟
1. رفع سعر الفائدة على الإقراض لليلة واحدة إلى 46% في اجتماع طارئ للبنك المركزي.
2. ضخ أكثر من 11 مليار دولار في سوق الصرف خلال يوم واحد لوقف التراجع الحاد لليرة.
3. منع البيع على المكشوف في البورصة لاحتواء موجة الهبوط في الأسهم.
4. خفض السيولة بالليرة في النظام المالي بنحو تريليون ليرة خلال 6 أيام، لتقليل المضاربات.
5. بيع 25 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي لدعم الليرة بعد هروب المستثمرين من الأصول التركية.
6. خففت قيود إعادة شراء الأسهم ومتطلبات نسب حقوق المساهمين إلى صافي الأصول حتى 25 نيسان ( أبريل) المقبل.
هل يعيد التاريخ نفسه؟ ثلاث أزمات... ونمط واحد يتكرر
لفهم حقيقة ما تواجهه تركيا اليوم، لا يكفي النظر إلى الأرقام أو التصريحات الرسمية. لفهم المشهد بحق، علينا أن نقرأ في سطور التاريخ القريب، ونتتبع كيف دخلت الليرة التركية نفق الأزمة في محطات سابقة .

أزمة 2001: الانفجار الكبير الذي غيّر وجه الاقتصاد التركي
خلال اجتماع لمجلس الأمن القومي في شباط (فبراير) 2001، ألقى رئيس الجمهورية أحمد نجدت سيزر مجلدًا من الدستور في وجه رئيس الوزراء بولنت أجاويد. بدا الموقف في حينه وكأنه مجرد "تلاسن سياسي"... لكن الأسواق كانت تترقب.
خلال 24 ساعة، شهدت الليرة التركية ما يمكن وصفه بانهيار كامل. العملة فقدت أكثر من 50% من قيمتها أمام الدولار، وارتفعت أسعار الفائدة بين البنوك. الدولة أعلنت العجز عن سداد التزاماتها قصيرة الأجل؛ كان ذلك أول إعلان "إفلاس مؤسساتي" لتركيا الحديثة.
لكن المفارقة أن هذه الأزمة كانت هي نقطة التحول الكبرى. حكومة أجاويد استعانت بخبير اقتصادي خارجي هو كمال درويش، الذي جاء بصلاحيات واسعة من البنك الدولي، وأطلق واحدة من أعمق حزم الإصلاحات في تاريخ تركيا:
• تعزيز استقلالية البنك المركزي.
• إلغاء تمويل العجز مباشرة عبر البنك المركزي.
• إصلاح هيكل البنوك بالكامل ووضع رقابة صارمة على الإقراض.
• اعتماد برنامج مع صندوق النقد بقيمة 16 مليار دولار.
النتيجة؟ خلال أقل من ثلاث سنوات، بدأت تركيا تسجل معدلات نمو قوية، واستقرارًا ماليًا غير مسبوق. لقد خرجت تركيا من الأزمة بفضل الصدمة والانضباط.
أزمة 2018: حين رفضت السياسة الإنصات إلى الاقتصاد
بعد 17 عامًا، دخلت تركيا أزمة مختلفة تمامًا في الشكل، متشابهة في الجوهر.
في أغسطس 2018، احتدم الخلاف بين أنقرة وواشنطن بسبب احتجاز القس الأميركي "أندرو برونسون". لكن خلف هذا العنوان السياسي، كان الاقتصاد التركي يعاني أساسًا من مشكلات متراكمة: تضخم متصاعد، عجوزات مزدوجة في الموازنة والحساب الجاري، واستقلالية محدودة للبنك المركزي.
أردوغان رفض رفع الفائدة بشكل قاطع، بل وصفها بأنها "أمّ كل الشرور". في المقابل، الأسواق كانت تصرخ مطالبة بتشديد نقدي عاجل. النتيجة؟ فقدت الليرة 40% من قيمتها في غضون أشهر، وتراجعت الاحتياطيات بشدة، بينما تدهورت قدرة الشركات التركية على خدمة ديونها المقومة بالدولار.
ما ميز تلك الأزمة هو أنها لم تنته بإصلاح شامل، بل بإجراءات مؤقتة مثل اتفاقيات تبادل العملات مع قطر والصين، وضوابط رأس المال غير المعلنة. تمت تهدئة السوق مؤقتًا، لكن البنية بقيت هشة والشرخ لم يُرمم.
أزمة 2025: ثقة الأسواق انكسرت
العام الحالي كان من المفترض أن يكون نقطة انطلاقة جديدة لتركيا. تولي محمد شيمشك حقيبة المالية في 2023، إلى جانب محافظ البنك المركزي فاتح كاراها، شكّل ما يشبه "فريق إصلاح مالي" نال احترام الأسواق. بدأ التضخم يتباطأ تدريجيًا، والليرة تتماسك بين فترة وآخرى، وبدأت المؤسسات الدولية تتحدث بإيجابية عن عودة تركيا للمسار التقليدي.
لكن السوق حساسة، والثقة لا تُبنى بكلمات فقط. فجّر اعتقال إمام أوغلو في آذار (مارس) 2025 أزمة سياسية واسعة، قرأها المستثمرون كتهديد مباشر لاستقلالية المؤسسات. النتيجة كانت دراماتيكية: الليرة تهاوت إلى مستوى تاريخي، والبورصة انهارت، وفقدت السندات السيادية أكثر من 10% من قيمتها خلال أسبوع.
الاقتصاد التركي لا يسقط بسبب الأرقام... بل يسقط عندما تتصادم السياسة مع المنطق الاقتصادي. كانت هناك فرصة للإنقاذ مع كل أزمة؛ والفرصة لا تزال قائمة في 2025 — لكنها هذه المرة أضيق وأكثر تعقيدًا. يبدو أن القيادة التركية تراهن على القبضة الأمنية والاستجابة النقدية السريعة لاحتواء الأزمة. لكن التجارب السابقة أثبتت أن الحلول قصيرة الأجل لا تدوم كثيرًا في مواجهة أزمات هيكلية.
إذا لم يتم التوصل إلى تهدئة سياسية، وتأكيد استقلالية المؤسسات النقدية، فإن الاقتصاد التركي سيبقى عرضة للهزات. وربما تكون الأزمة الحالية تذكيرًا قاسيًا بأن الاقتصاد لا ينفصل عن السياسة، وأن فقدان الثقة يمكن أن يحدث في لحظة، لكن استعادتها تحتاج إلى سنوات من الإصلاح والاستقرار.
نبض