2020- هل نتصالح مع الأرض التي أنجبتنا؟
Smaller Bigger
مع اكتشاف اللقاح الجديد، تقترب عاصفة الوباء من نهايتها. ستنتهي هذه العاصفة كما انتهى الطاعون وغيره من الأوبئة، لكن ستبقى التحدّيات الكبيرة قائمة. تحتاج البشرية الآن، بصورة ملحّة قبل فوات الأوان، إلى سياسة أخرى لا ترتكز إلى سلطة القهر والاستغلال، ولا إلى الأسلحة النوويّة والكيميائيّة والبراميل المتفجّرة، وهي أشدّ خطرًا وأكثر فتكًا من جميع الجراثيم، كونها صنيعة الإنسان نفسه، هذا الإنسان الذي لم يتقدّم على المستوى الإنساني كما تقدّم تقنيًّا وتكنولوجيًّا، فبقيَ كأنّه ينتمي، في جانب أساسي منه، إلى عصور بدائيّة سحيقة. فهل يحقّ لنا أن نأمل بغد جديد مختلف؟ وهل سيكون العالم بعد أزمة كورونا بخلاف ما كان قبله، كما نتمنّى ونحلم؟
 
في القرن التاسع عشر، ظنّ بعض الفلاسفة والعلماء أنّ الاكتشافات العلميّة ستؤدّي، أخيراً، إلى التخلّص من البربريّة التي طبعت حياة البشر، وستساعد على الوصول إلى شاطئ الأمان. لكنّ الواقع أظهرَ عكس ذلك، إذ شهد القرن العشرون الكثير من المآسي التي سبّبتها الحروب، واستعمال القنبلة النوويّة لأوّل مرّة في التاريخ، والمزيد من استغلال الإنسان للإنسان، وصعود نزعات التطرّف والتعصّب الديني، واستباحة الطبيعة، مع الانتصار الكلّي للاقتصاد والتخلّي عن أيّ مشروع سياسي إنساني. وهذا ما وضع العالم أمام تحدّيات كبيرة وآلام جديدة ومخاطر غير مسبوقة. 
 
في القرن العشرين، بدأ الحديث عن فيزياء الكمّ، والذكاء الاصطناعي، والمنظومات الرقميّة، والإنسان المَزيد، وتأخير الشيخوخة، واختراق الفضاءات البعيدة، وإذا بنا نكتشف أنّ أحد أصغر مخلوقات الطبيعة يغيَّر حياتنا بلمح البصر ويجعلنا نعود إلى جحورنا نحتمي بها خائفين، كما كان أجدادنا القدامى يتلطّون في المغاور.
 
ما وصلنا إليه الآن لم يأتِ من فراغ. إنّه نتيجة سلوك إنساني غير إنساني. سلوك قائم على الجشع والاستغلال والربح، ومن نتائجه تدمير الغابات وتلوّث الماء والهواء والانحباس الحراري وذوبان الجليد القطبي. ولذلك ما فتئ العلماء يحذّرون من إمكانيّة حدوث أوبئة أكثر خطورة وأشدّ فتكًا من وباء كورونا. من جانب آخر، تَبيَّن أنّ للحجر آثارًا إيجابيّة تمثّلت في انخفاض انبعاثات ثاني أُكسيد الكربون بنسبة 40 في المئة، والجزيئات الدقيقة، بنسبة 10 في المئة، ممّا أنقذ حياة ألوف الناس من الموت المبكِّر. هذان العنصران اللذان يسمّمان الهواء يموت بسببهما سنويًا، في أوروبا وحدها، أكثر من 500 ألف شخص. في العقود الثلاثة الماضية، لم تنفع تحذيرات المتخصّصين في مجال البيئة من خطر السياسات الجنونيّة المتّبعة على مستوى العالم أجمع.
 
وكشف وباء كورونا إلى أيّ مدى يشكّل تلوّث الهواء خطرًا على صحّة الإنسان وحياته، وإلى أيّ مدى ساهم التلوّث أيضًا في انتشار هذا الوباء، وذلك أمام لا مبالاة المعنيّين بإدارة شؤون هذا الكوكب وتحويله مكانًا غير صالح للعيش.
 
الرحلة طويلة، وما يحدث الآن يبرهن من جديد أنّ تقدُّم العلم والتكنولوجيا لا يصلح إذا كان المستفيد منه فئة واحدة من البشر فحسب، وإذا لم تعمل هذه البشريّة المسكينة على إعادة نظر كاملة، على مستوى العالم أجمع، في البنى السياسية والاقتصادية، وعلى صياغة عقد اجتماعي جديد قوامه التعليم والخبز والحرّيّة للجميع. 
 
كان وباء كورونا صفعة كبيرة لبعض أوهامنا المادّيّة والروحيّة، وأكّد على أمور كثيرة منها هشاشة وجودنا، والخطأ في تقدير موقع الإنسان في الكون، فهو ليس مركز الكون ولا سيِّده - كما خُيِّل إليه وكما افترضته بعض النصوص الدينيّة - بل أحد عناصره ومكوّناته، فضلًا عن أنّ الضرر الذي يلحقه بالأجناس الحيّة الأخرى سيرتدّ عليه لا محالة. أكّد الوباء أيضًا أنّنا نستطيع أن نعيش من دون سيّارات وطائرات ومن دون دُور العبادة، لكنّنا لا نستطيع العيش من دون أُوكسيجين، وأن لا خروج من هذه الدوّامة من دون تضامن على مستوى عالمي وتغيير أنماط العيش السائدة والتنبّه إلى أنّ الحياة على الأرض لا يمكن اختزالها في الاقتصاد وفي تسليع كلّ شيء بما في ذلك عواطف البشر وأحاسيسهم. 
 
في تدمير النُّظُم البيئية وفي غياب مشروع بناء إنسانية جديدة أساسها العدل والمساواة، سيظلّ العالم يترنّح على شَفا سديم. ولئن وُجدَ اللقاح المطلوب، وقد وُجدَ الآن، فإنّ المستقبل سيظلّ غامضًا يتراوح بين احتمالات عدّة. وقد طالعتنا، في الآونة الأخيرة، أصواتٌ مسكونة بالأمل وينظر أصحابها إلى الغد نظرة تفاؤل إيمانًا منهم بأنّ عالمًا جديدًا سيولد من هذه الكارثة، وأنّ الرهان، بعد اليوم، سيكون على التخصّص والكفاءات، وعلى التضامن الإنساني في مواجهة المخاطر التي لا تميّز بين إنسان وآخر، وبين دولة وأخرى، وكذلك على إعادة نظر كاملة في العولمة، وإيلاء الشأن الصّحي وقطاع التعليم ما يستحقّانه من اهتمام. من جهة ثانية، ثمّة من ينظر إلى المرحلة المقبلة بكثير من الشكّ والارتياب، ويرى أنّ الواقع الراهن لن يفضي بالضرورة إلى تغيُّرات إيجابيّة، بل قد يضاعف من الرقابة وتضييق الحرّيّات في ظلّ أزمات اقتصاديّة متفاقمة. 
نحن نعيش، في هذه المرحلة من الزمن، على مفترق طُرُق. إمّا أن نتصالح مع أنفسنا ومع الطبيعة والبيئة حولنا، أو أن نفعل العكس وتكون النتائج معروفة مسبقًا، ويتحقّق استشراف عالم الأنتروبولوجيا الفرنسي كلود ليفي ستروس في كتابه "مداريّات حزينة": "بدأ العالم من دون الإنسان وسينتهي من دونه".
 
 
العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/8/2025 10:41:00 AM
فر الأسد من سوريا إلى روسيا قبل عام عندما سيطرت المعارضة بقيادة الرئيس الحالي الشرع على دمشق
النهار تتحقق 12/8/2025 10:43:00 AM
الصورة عتيقة، وألوانها باهتة. وبدا فيها الرئيس السوري المخلوع واقفا الى جانب لونا الشبل بفستان العرس. ماذا في التفاصيل؟ 
النهار تتحقق 12/8/2025 2:57:00 PM
الصورة حميمة، وزُعِم أنّها "مسرّبة من منزل ماهر الأسد"، شقيق الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد. ماذا وجدنا؟ 
أثار سكنه في شقة بتكلفة 2300 دولار شهرياً انتقادات من خصومه الذين يعتقدون أن راتبه كعضو في جمعية ولاية نيويورك ودخل زوجته يسمحان للزوجين بالسكن في شقة أفضل.